نِهَايَةُ مدينة.. نِهَايَةُ سَعْدَة

وصل إلى المرحلة النهائية للمسابقة الأدبية “ألفا ليلة وصحوة”

إدلب التي كانت عروس التين والزيتون في الشمال السوري، باتت أَرضُها دَوَّامةَ فوضى، وَسَماؤُها مظلَّةَ طائراتٍ قاتلة.

والآن.. كما يَنْسَلُّ نورٌ خائِفٌ من فُرجةِ البابِ إلى غرفةٍ ظلماء، يَنْسَلُّ من نفسي أملٌ واهنٌ ألَّا تكون نهاية مدينتي الخضراء كنهاية سَعْدَة؛ مؤلمة، غامضة.

سَعْدَة امرأة شارفت على الستين، لا يعرف أحد أصلها، لكنها كانت نقطة علاَّم في خارطة الناس في مدينتنا إدلب.

وجهها متعدد التضاريس، كأنه القمر كما يُرى بالمنظار الفلكي.

تغطي رأسها بخرقة كالحة، من أطرافها تطل خصلات شعرها الأشيب الذي لم يعرف المشط يوماً.

كانت تعتني بما يزيد على الخمسين قطاً، وهي في الوقت ذاته لا تملك إلا خربة صغيرة.

عندما تحصل على بعض المال كانت تدسه في صدرها، ولا أحد يعلم بعد ذلك أين تذهب به، لكن التخمينات كثرت عندما هدمت جرَّافة البلدية خربتها من أجل إنشاء بناء جديد، يومها كانت سَعْدَة غائبة في إحدى جولاتها، تجمهر الناس لمراقبة المشهد المؤلم لقططها المذعورة، هجمت الجرَّافة على الخربة كما يهجم النمر على فريسته، تحطمت الجدران الواهنة بضربة واحدة، تناثرت النقود، اندفع الناس بجشع وتعاركوا.

في ذلك المساء وقفت حزينة على الأطلال مع كتل الفرو البائسة، للمرة الأولى رأى العابرون دموعها.

انتقلت مع قططها إلى الجهة الجنوبية من ساحة البازار ـ ما يعرف اليوم بساحة الساعة ـ أنشأت خيمة من القماش البالي في وسطها عمود من الخشب، خيل للناس أنها تجاوزت مأساتها، فعادوا إلى مراقبتها والتحرش بها أحياناً.

في صباح يوم شتوي وُجِدَتْ سَعْدَة ميتة في خيمتها الواهنة، لم يرتفع خبر موتها من فوق مآذن المساجد.

كيف ماتت المرأة؟ تعددت الروايات في ذلك.

رواية الأستاذ عبدو:

قال الأستاذ عبدو لزملائه المعلمين في ثانوية المتنبي: ماتت المرحومة بسبب اختناقها بالدخان، كانت الليلة باردةً، أغلقت عليها خيمتها وأشعلت حطباً، تكاثف الكربون ففطست.

علَّق الأستاذ حازم: خيمتها منسوجة من خرق الثياب المليئة بالثغرات، لا يمكن للدخان أن يقتلها.

رواية حفيظة الخياطة:

قالت حفيظة لزبوناتها وهي تعض على الإبرة بأسنانها الأمامية: ماتت المرحومة من شدة البرد، ألم تروا كيف جمد البرد الثياب
المعلقة على حبل الغسيل ليلَتها؟

علقت أم نهاد: كانت الليالي السابقة أشد برداً من ليلة موتها!

رواية السكسوك الدرويش:

قرفص السكسوك جانب الرصيف، قال مهدداً: أعطوني ساندويتش فلافل أو سأموت جوعاً كما ماتت سَعْدَة.

لفَّ أبو عبدو الفلافلجي ساندويشة فلافل، ناولها للسكسوك، قال بغير اكتراث موجِّهاً كلامه للحاضرين: لم تمت المسكينة من الجوع، في ليلة موتها أعطيتها ثلاث ساندويتشات.

لم يرد السكسوك لأنه كان منكبّاً على الساندويشة التي أحكم إمساكها بكلتي يديه يلتهمها بسرعة ظانّاً أن أحد المارِّين قد يسرقها.
رواية زكريا المُلَقَّب بِـ(الْمُعَتَّرْ) لشدَّةِ فَقْرِهِ:

الْمُعَتَّرْ يعمل في البلدية، لم يتحدث في موضوع سعدة رغم انتشاره بين الناس، سألته زوجته: ما شأنك يا رجل؟ لِمَ لا تهتم
بالمرحومة؟

عَضَّ شفته محاولاً لجم فمه، تابعت: ما بك؟

أطرق ملياً ثم قال: أنا أعرف سبب موتها، إنها جملَتُها الأخيرة.

تعجبت زوجته، أخرستها الدهشة.

تابع كأنما يحدث نفسه: في آخر ليلة لها كنت أكنس الشارع أمام خيمتها، مر بها شاب مفتول العضلات من الذين يحملون على أقفيتهم المسدسات.

قاطعته زوجته: يا لطيف! ثم ماذا؟

تابع: سألها الشاب عن قططها فلاطَفَتْهُ مُرْغَمَةً، لكنه رفس إحدى قططها بقدمه، أسرعت والتقطت قطتها المكوَّرة على أَلَمِها، بكت بحرقة، هددَته قائلة: سأعاقبك غداً، فأنا بنت عم رئيس الجمهورية.

 

المؤلف، مصطفى عبد الفتاح:
 

  • طبيب أسنان وكاتب من سورية
  • عضو اتحاد الكتاب العرب.
  • نشر العديد من الأعمال الأدبية والصحافية في عدد من المجلات والصحف العربية.
  • جائزة مركز اليابان للتعاون الأكاديمي للقصة القصيرة.
  • جائزة شكري فيصل للنقاد الشباب.
  • جائزة نلسون مانديلا للبحوث في جنوب افريقيا.
  • جائزة الدول لأدب الطفل، قطر.
  • جائزة مكتب التربية العربي لدول الخليج.
  • له عدد الكتب المطبوعة.