أسلاك وأشلاء

Sheep in Gaza, Palestine

انقطع التيار فأسدل الليل ستائره، الصمتُ يغرس نابه منقضاً على ضجيجٍ أبكم، تقوقع الجميعُ ساكناً لا تسمعُ إلا همساً، بكاءُ صغار يقطعُ أنينَ السكون، وصوتُ ارتطام رصاصة يأتيك من طرفٍ خفي، واجتمع محاقُ كانون وصقيعه، تحولتْ القرية إلى أشباح وآذان صاغية، هدأ صوت الطفل رويداً على ثدي أم التقطه جزعاً لا جوعاً، وشمعة تطعمنا نورها مانحاً أماناً نلتمسه.

أهاج الظلامُ نوماً غير مأمول، وحرك في آخرين يقظة أفئدة ناسكة، أو شهواتٍ مسعورة للقتل، التمستُ مذياعي القديم تريد أركانه أن تنقض، يقيم أوده أستيك فقد صفته فلا تخرج أحشاؤه، رحتُ أستجديه علَّه يسامرني ظلام ليّلتي، أدرته برفق، أخرسه الليل وأصمه البرد، هززته بلينٍ كي ينفضَ ما علاه من قسوة الهجر، أبى نطقاً كمن يعاقبُ حين مقدرة، تحسستُ بطاريته بغيظٍ، فصرختْ وتقيأتْ بصدأ وصديد في جوفها، انقطعت أمعاءُ الرجاء في صديق أصارع معه أبابيل ليلة عاصفة، تأففت وحدتي وتضاعف خوفي من أزيز الرصاص، بحثتُ مرغماً عن سِنةٍ أو نومٍ، تهتُ في أغطية تشبه كفن ميتٍ في إحكامها، اتخذتُ الرجاء وسادة علَّ الجفنَ يثاقل، أو ينقضُّ عليه حلمٌ ضلَّ صاحبه، لكن صوت الريح يعلو ويعبث بحباتِ رمالٍ يتيمةٍ تطرق نافذتي، تبحثُ عن ملاذٍ آمن، درفات النوافذ تتخاصم ولا تتعانق، تلتمسُ هدوء عاصفة رُبَّ المطر في أردافها، مناشر الغسيل تكاد تنفك من عقالها، وأبي قابع بجوار غنماته يفترش في مراحه، خشية أن يتفلتن من طلقات الرصاص أو رصاصات المطر.

أحكمتُ الغطاء ليسكتَ النباحُ داخلي، تناومت، ثقلت الأجفان رويداً، وأرختْ رموشها لتعلنَ استسلاماً لباقة نوم تغازلها، وسرعان ما عاد النوم أدراجه مولياً، لأسمع ثغاء حملٍ بالباب، إنه يعرفني ويعرف أين يجدني، انتظرتُ ليغادرني،لم ينقطع، يريد أن يوقظ البابَ النائم في أعماقي، لابد أن صقيعَ الليل أتى عليه، يحاول إمساك المقبض بأسنانه، انتبه الآخر الذي بداخلي، علا صوته يعاتبني ويعنف، أتدعي السمو والرحمة؟ ربما بعثه الله ليختبرك، أن انهض يا هذا قد يشهد لك أو عليك.

انتبهتُ وقذفت غطاءً يكبلني حتى تعدم يدي التقاطه، أشعلتُ قداحتي، فتحت البابَ ليلجَّ على عجلٍ، أبى، داعبَ دمعُهُ توجسي، وكأنه يسلم ويشكر أن فزعتُ له، عاد إليه بعض أمانه، فهزَّ جلده ليجففَ صوفاً بلله خوفٌ، فتأوه قدمي من رذاذ صقيعه، احدودب ظهري وجلستُ إليه؛ ظننته للبطن خاوياً، آلمني لهبُ قداحتي، فتناولتها بالأخرى، وصعدتُ بعض درجاتٍ ليأمنَ معي ما يخيفه، هزَّ رأسه لا أريد صعوداً، وأشاح أن انزل، تحسستُ بقدمي درجاتِ سُلمٍ متقرح بذنوبي نازلة، فأسرع أمامي شاكراً، وجدت المراح خاوياً من الأغنام وأبي، أسرع الحمل موليا نحو لأسلاك، سمعتُ من خلفها بكاء نعجة كانت رابضة في زقاق، يبدو أنها طاردتْ خوفاً فانجحرت في شقٍّ حتى ضعفتْ وجهدتْ، تأملت المكان على ضوء قداحتي … يا إلهي! جثمان أبي متناثر مع بعض الشياه إثر شظايا؛ أراد أن يهرب بغنماته فهرب إلى الآخرة، فجلست أبكي متكئاً لنخلةٍ أثمرت شهداء أكثر مما أثمرت تمراً، وأتخيل قريتي وأبي يدفعه دخولُ الليل؛ فيحثُّ غنماته إلى مجرى السيل، يسقي الصغيرة بالعلب وينفخ في القصب، ويشمر أطمارَه المهترئة، ويزيل الأوضارَ عن فرشته؛ يقيل في الظهيرة بين أشجاره، وكأنه نسيم أسحاره، لا يأبه بدوي النحل في المحل، ولا وثب الجراد في الوهاد، المهم طلب المقيل وقت تقدح الشمس زنادها، فتعم الراحة كلَّ ما ومن في الساحة، فنفسُ المرء في كلِّ مكانٍ عينُ ماءٍ، تصف ما يقابلها من أشياءَ.

 

بقلم المؤلف أحمد إبراهيم أبو المعاطي الحارون