أنـاس

555

في أعالي جبل المقطم القديم، ومن خلفه جبل الدويقة، كانت تستتر بيوتنا، وكثيرا منها ما يحتمي بصخرة هائلة..
نقطن في منطقة تسمى المعدّسة، تلقى في بطنها أوساخ الناس ونفاياتهم في زرايب منشية ناصر..
كأجراس الكنائس الآذنة بموعد صلاة مقدس كان يقرعنا الفجر، وتلقي لساعات خيوط الصبح نداها على جلود أجسادنا الساخنة من عناء التيه في صحراء النوم، نركد مهللين كصفار ضوء شحيح في العتمة، نطل على العالم النائم من أعالي جبالنا، نهبط عليهم كلصوص الليل نسرق قذارتهم، ننحدر من طريق وعرة مهدناها بخطى العادة، في صفوف نعتلي عرباتنا ذات الصناديق الخشبية، تسوقنا حميرنا المقروحة على أزيز احتكاك أخشابها، تجرّنا الحمير على خطواتها المنغومة التي وكأنها لا تبغي التقدم بقدر ما تستحلي إيقاع النغم، الذي يخرس أصواتنا المتعالية ونخفت في إنصات، لتوقظ فينا صوت سكون الوجوم بداخلنا فيغلبنا النعاس، نرتسم على كبد الجبل شرايين متجلّطة سوداء في وجه الزمان..
كنا غلمان خرجنا لخدمة سيدنا لقمان، ذلك الثري الذي تحكي عنه الأساطير القديمة، حقا لم نره ولكنا جميعنا رأيناه في المعلم شفيق..
سخر مني وليم عندما حدثته عن قصته، غير مصدق أن يكون هناك رجل في هذا الثراء، ضحك وضربني على رأسي، لكن فانوس اللئيم يعرف مغزى الحكاية، أومأ تجاهه برأسه الممدود وابتسم في خبث، حيث كانت همساتنا قد فرّت من أذنه كالفئران الكبيرة التي تجري حولنا وترتع وسط أكوام الزبالة الهائلة، فكانت فرصة أن نتمطى فاردين أجسادنا النحيلة على وسائد الحكايات الحالمة، وهو يغط في نوم عميق متكئا على عصاته بجلباه البني القذر، وحوله تعيث خنازيرمثله آكلة كل شيء حتى ذيل جلبابه..
ضمّني بجانبه يخلط عرقه بعرقي مجيبا بصوته الناعس الأجش: “الولد مسعد سيورثني من عينيه.. رغم أنه ليس من دينّا” وهو ينظر إليّ بشرخ ابتسامة لزجة، لم تفلح في اخفاء حقده، انشقت ضحكة دويّها في قلوبهم، يجمعنا عمالا متهالكة بريق ناشف ساعة نيل الأجرة، جشعه وشحه يجعل البعض منا يحلم بأن يرثه، كل منّا لقمان آخر وعلى أجيال جدد..
كانت السنة تمر علينا بطولها الكامل، تسقط علينا أفراحا وأعيادا، نمرح في كل أعيادنا ومناسبتنا، لم نفترق تجمعنا جلسات سمر الخوف شبابا وبناتا على قنديل أرواحنا البيضاء، وسط الضحكات المغموسة بالدموع، تضرب وجوهنا بحمرة وهج الروح، وتقرقع مدفأة صدورنا من شرارها، تسألني فريال بحكم أنني المتعلم الوحيد بينهم، وهي تترقبنا في تيه سهم: “ولدنا بقلوب بيضاء.. هل سيصلها يوما العفن الذي نعيش فيه” تضحك نبيلة ضحكتها الحرّة الجريئة، بينما يتلبّسنا الذهول ويعرّي المخبوء؛ نسرق بله وجهها فيكسونا..
ثار الغول؛ فنفجرت صخرة جبل المقطم في منطقة الدويقة تهرس المنازل والناس، ودوى الحدث في كل أنحاء الدنيا، كنت في آخر سنة بالجامعة أدرس الصحافة؛ فثرت كالصخرة أنوي أخذ الثأر، سلطوا كاميراتهم عليّ في خبث وأماني، أطفأت نورها حماسي، وانتشيت عندما انتقيت العبارات في البرامج التليفزيونية لتفسير الحدث بحرص لازم..
لم ينسوْني قط.. يخطرون في بالي، وجوههم تطل كل فجر من خلف صخور منازلهم العالية سابحة في السماء..
فريال ساهمة، ونبيلة تضحك، ووليم وفانوس كعهدهما شقيّان..
لا أعرف كيف عوى النهار وأصرّ على المكر والنكران، وأنا أتسكع تائها، بينما لقماننا لم تخسف ممتلكاته كما كان في الأساطير، ماردا يضحك أمامي ويبول على وجهي..

بقلم المؤلف مختار محمد أمين

اختر مغامرتك

اختار لقمان الحكمة، ولمّا استيقظ من سباته، استطاع

أ) سماع هبوب الرياح.

ب) رؤية ماضيه الذي بقي بعيدا.