الأنباريين وقدمي المعلقة

Kadhimiya, Baghdad, Irak

نحن نولد بقدمين غير أن أحدهما تقف في المكان الذي ننشأ فيه، بينما الأخرى تظل معلقة، بأنتظار قفزة تغير خريطة مستقبلنا.

حين أطلقت صرختي الأولى في هذا العالم ، كانت صرخة تسجل في منطقة تدعى الأنباريين..جزء صغير جدا بحجم حبة العدس تراه في خريطة بغداد. هناك في تلك المنطقة نشأت واقفة بقدم واحدة ، جاهدة للتطلع بوثبة للغد. نشأت أثمل بعبق الجدران الخشبية المزخرفة لشناشيلها، و الزجاج الملون الذي يغطي شبابيك بيوتها. غرتني جدرانها القديمة بقدم تاريخها لتكون لوحتي أرسم عليها شغب طفولتي. أزقتها الضيقة الأثرية المتخمة بحكايات تتوارثها الأجيال، تكاد تكون سحرا مضببا يفوح منها البخور كل مساء، يتناغم مع هديل حمام الوقواق .

خيوط الفجر فيها، يرسم لوحته بأذان لضريحي تجاورهما .. الأمام موسى الكاظم وحفيده الأمام محمد الجواد ( عليهما السلام). ولبركتهما تزدان الأنباريين بحمام الهاشمي.. حمام كانت الملكة عالية تأتي بوحيدها فيصل الثاني، ملك العراق السابق لمعالجته من وعكته الصحية ( الربو).

حين يتنفس الصباح فيها، يطرق السمع زمجرة لفتح أبواب الدكاكين ..منها مخبز، عطارة، حدادة.. وغيرها من يتألف مع صوت أمراة تتشح السواد، تضع صينيه فوق رأسها، تصيح ( قيمر)بينما تتجول في الأزقة.. تلك الأزقة الضيقة التي نشأ فيها علي الوردي.. عالم الأجتماع العراقي والباحث والمؤرخ.

النهار في الأنباريين .. حيوي ويتفجر بطاقة سكانها ..رجال يعملون.. نساء يهتمن بإدارة بيوتهن وصبية يشاغبون بعقول أصغر من إدراك معنى الحياة.. يطلقون ضحكاتهم بمرح ويتوعدون أنهم سيجتازون امتحان الغد بأعلى الدرجات، وأسرب حمام يحلق في السماء ، تسمع صفير أصحابها يعلو من سطوح أحواشها المكشوفة للغيوم.. أحواش تتوسطهن شجرة سدر أو برتقال.

المساء فيها ترف وثراء لمن يجاهد في يومه، فالمقهى الشعبي يغريك بشرب شاي مهيل وقرقعة قطع الدومينو تضيف لمسة شقاوة تدعوك أليها بمغامرة دون تفكر.. أمام ذلك المقهى كنت أشق طريقي ذهابا وايابا من البيت الى المدرسة، وذات يوم وبالصدفة وقعت عيني على رزمة أوراق نقدية مرمية بعبث تحت أحدى الأرائك الخشبية.. لم يكن عمري يتجاوز العاشرة حينها، إلا أني أدركت أنه كنز، كان بإمكاني الاقتراب ووضع قدمي عليه، لأكون القرصانة التي عثرت عليه، غير أني تراجعت .. فقدمي الأخرى لا يجب أن ترسو عليه.. لا ترسو على كنوز الآخرين.. بل عليها الأجتهاد لتجمع كنزها الفريد، فناديت ببراءة الأطفال على أحد الجالسين ، أخبرته بأمر ذلك الكنز المجهول صاحبه، نهض الرجل وأقترب منه، وضع كل الأوراق المالية في جيب جلبابه الأبيض وهو يحثني على المضي في سبيلي.

لا أعلم إن عاد الكنز لصاحبه فقد شغلني سؤال واحد.. سؤال جال في مخيلتي الصغيرة ، أي هدف أثبت قدمي المعلقة على طريقه .. ولئن الصدفة تلعب كشوط أضافي بعد إنتهاء جميع الأشواط، صادفتني قصة كلكامش وملحمته في سعيه للخلود .. حينها عثرت على جوابي.. الخلود.. هذا ما أود السعي له، لن أبحث عن عشب سحري، أو ينبوع أزلي، بل سأبحث عن شيء أخر.. شيء يخلد أسمي لا جسدي.. حينها وجدت القلم… حينها فقط وضعت قدمي المعلقة على طريق الهدف.

تمت

بقلم المؤلفة رشا الصيدلي