عند بائعة الشاي

فائز المسابقة الأدبية “ألفا ليلة وصحوة”

Khartoum, Sudan

“هل نسيت شيء ما ؟”. سألت نفسي وأنا أجلس لإحتساء كوب من الشاي بعد جولة مضنية في سوق الخضروات. تأكدت من تمام أغراضي ثم تنفست بعمق. كان الرصيف يعج ببائعات الشاي. و روائح النعنان والقرنفل، طغت على عشوائية المكان فبدى ملهماَ ومستدرجاَ للمارة. لم يكن هنالك الكثير من الزبائن هذه المرة. لم أجد شيء جدير بالإهتمام لألقي عليه نظراتي الهائمة. فالصباح مازال يطلق أنفاسه، والعودة الى المنزل في مثل هذا الوقت، هي أبعد ما يتمناه شخص عاطل عن العمل من أمثالي. بدأت أطالع لافتات المحال التجارية التي تطوق المكان،كنت مخلصاَ في حفظها عن ظهر قلب. تارةَ أراقب المرضى وهم يتباطؤن نحو الصيدلية، وتارةَ أخرى تجذبني حوارات بائعات الشاي فأخوض في الحديث معهن دون إستئذان. كان يجلس بجواري شاب ملتحٍ ، تتدلى جدائل شعره من على رأسه كحبال التيل، يرتدي بنطالاً كان قد أنزله الى ما أسفل عظم الحوض بكثير، فبعد أن استقر جيدا على كرسيه، قام بترتيب قبعته ثلاثية الألوان ثم أدخل سماعات صغيرة في أذنيه وأخذ يترنح ببطء وبإيقاع متزن حتى أثار فضولي فتبسمت قائلاً: أيمكنني أن أطرب معك قليلاً؟ أجاب الشاب بإبتسامة أكبر: هذه موسيقى ” هيب هوب” .. هل تستمع الى “الهيب هوب”؟. فقلت : ” أحياناَ”. فقال: ” خذ و اطرب قليلاَ.

أدخلت السماعة في أذني اليسري وبدأت في الإصغاء الى ما يقوله المغني، إلا أنني قد توقفت فجأة قائلاً: مهلا مهلا.. هل بإمكانك ان تعيد المقطع
الفائت؟، فأعاد الشاب المقطع وبعدها أخرجت السماعة قائلاً: هل سمعت ما قاله المغني؟

—ماذا قال؟

—يبدو أنك لاتجيد الإنجليزية!

أحس الشاب بقليل من الخجل، فأراد أن يبرر عدم فهمه للكلمات قائلاً: “أفهم بعض المصطلحات لكن ليس كثيراً”.

—يبدو أنك تطرب الى الأيقاعات فقط.. اليس كذلك؟

—نوعاً ما

—هل تريد معرفة ماقال؟

—ماذا قال؟

—قال: ” أنت فقير، لأنك تعيش كملاك.. كُن كشيطان، تعبده النساء ويتقربن إليه بالنبيذ الأحمر .. إفعل ذلك ليتوقف عمدة المدينة عن مغازلة زوجتك.”.

أظهر الشاب نوعاَ من الأنزعاج بسبب تطفلي الزائد ثم قال: “هل تريد مواصلة الإستماع؟”. فقلت: “لا لا شكراَ لك”. أخذ الشاب سماعته وقطع حديثه معي لينشغل بحلحلة سلك السماعة الذي علق بجدائل شعره الأخطبوطي وأخذ في ذلك الكثير من الوقت. وفجأة نهض الشاب وتوجه نحو بائعة الشاي ليدفع النقود ثم مضى بعد ذلك. تتبعته بنظراتي حتى توارى عن الأنظار ثم إكتشفت بعد ذلك أن محفظة الشاب قد إنزلقت من جيبه وأستقرت في وسط المقعد. كاد الفضول أن يقتلني لولا أنني أسرعت في فتح المحفظة للعثور على عنوان أو رقم يمكّنني من إرجاعها الي الشاب، لكن لم أجد فيها سوى عازل ذكري وبعض الأقراص المنشطة. نظرت الى بائعة الشاي ثم قمت بطي المحفظة وأتجهت نحوها قائلاً: “يبدو أن أحدهم قد نسي محفظته على المقعد، ها هي”. تسلّمتها قائلةَ:” لدي الكثير في هذا الدرج”. غادرت المكان وأنا أدندن دون أن أشعر ” أنت فقير، لأنك تعيش كملاك.. كُن كشيطان، تعبده النساء ويتقربن إليه بالنبيذ الأحمر .. إفعل ذلك ليتوقف عمدة المدينة عن مغازلة زوجتك.” وأخذت أردد ذلك إلى أن صمت فجأة ثم صفعت جبيني قائلاَ: ” يا إلهي! لقد نسيت كيس الخضروات عند بائعة الشاي”.

 

المؤلف، كامل عيساوي:

قاص وشاعر سوداني