نداء الفجر

The sea at Alexandria, Egypt

عيناها وقحتان تلك المدينة الغادرة .. الأسكندرية
ترميانك بنظراتها اللاهية وهى تتابع خطواتك المتوثبة فى منحنياتها المتخمة بالسرور.
هى هكذا تحملنا على صدرها فلا تحنو و لاترق ، ولكن تطوح بنا كيف تشاء ، واثقة أنها مهما فعلت بنا سنرضى، على أساس أن مجرد وجودنا بين أحضانها نعيم .
فى صيف بعيد أخذنا الأجازة الصيفية ، أسبوعاً تغلق الشركة فيه أبوابها ، تجهز الباصات للسفر وتحجز أماكن المبيت للمشتركين فى الرحلة من الموظفين وأسرهم، اختار معظمنا الأسكندرية، غادرنا القاهرة بأشواقنا ولهفة أبنائنا الصغار للقائها، تلقتنا ببسمتها الغامضة، لم ندرك ماوراء تلك البسمة الا بعد حين ، تراقص النسيم كعادته بأرواحنا، وأفسحت الرمال صدرها لأجسادنا شبه العارية ونحن نلعب كباراً وصغاراً الكرة الطائرة أو كرة القدم، بينما البحر يرسم على محياه الممتد الى حد الأفق هدوءً يليق بعملاق مثله.
كانت النساء تختار ما قبل الشروق للتمتع بلمسات الماء الحانية الى أن ينسل الضوء عبر السماء فاتحاً عيون الكون على الصباح فيخرجن ويبقى الصغار فى أحضان الموج ، يجهزن السندوتشات مع اعتلاء الشمس عرش السماء من ناحية الشرق، يهرول الأطفال الجوعى فرحين ترتعش أجسادهم الصغيرة فتتلقاهم المناشف فوراً، يلوكون الضحكات مع الطعام.
خرج الأطفال جميعا ولم يظهر فريد ابن زميلنا السيد منصور، هبت أمه ملتاعة تبحث عنه ، لم تصل لشىء، قال الأطفال أنه كان يلعب معهم، يتوالى اندفاع الموج فيتقلبون فى الماء مع كل موجة تضرب أجسادهم الصغيرة مع مد الموج، وحينما ينحسر يهبون واقفين ماسحين بأيديهم الصغيرة أعينهم ، وربما تسابق بعضهم مع الآخرين فى الغوص تحت الماء أثناء قدوم الموج، أو تبادلوا بينهم قذف الكرة وسط الماء والهرولة وراءها حيث تسير، الكل كان يلعب، فلم ينتبهوا أين ذهب فريد.
تأزم الموقف بعدما قام الكبار جميعاً بتفتيش الشاطىء ومعهم فرق الانقاذ ولم يصلوا الى شىء ، اعتقلت النساء ابنائهن وعلت وجوههن علامات خوف وقلق تزايدت بمرور الوقت.
حل الليل كئيباً مظلما ً ولم يظهر فريد. نصح أحد رجال الانقاذ أم فريد أن تأتى مع تباشير الفجر الى الشاطىء، تنادى ولدها ، فإن كان غريقاً سيلبى وتظهر جثته، وإن لم تظهر الجثة فولدها بالتأكيد لم يختطفه البحر.
حان الوقت المعلوم ، أخذت العيون جميعاً من خارج الشاطىء ترصد والقلوب ترتجف، أما الشاطىء فقد خلا تماماً الا من الأم المكلومة ، وقفت وحدها والبحر المتجهم وأنين اللحظات تنادى ، وقلبها ينزف الحروف تباعاً:-
يافريد
بينما صوت الهدير يشاركها البكاء. لحظات وصرخ صوت من خارج الشاطىء مشيراً الى موجة قادمة تحمل على صدرها جثة الصغير.
تحولت الأسكندرية بعدها الى مدينة غادرة ، عيناها وقحتان ، وتحول وجهها الى وجه ممقوت سطرت على جبهته قصة غرق فريد ، الى أن اضطرتنى ظروف العمل الى العودة اليها من جديد ، توجست منها شراً وتطيرت من البقاء فيها ، طلبنى مديرى ذات صباح على غير المعتاد ، حلق طائر الشؤم أمام عينى ، توجهت اليه وانا أؤنب نفسى لقبولى العمل بها ، فتحت الباب محدقاً فى شفتيه منتظراً سماع كلماته السوداء، تبسم ماداً يده بالسلام مهنئاً :-
مبروك الترقية

بقلم المؤلف محمد عباس على داود