في سَنَةِ 1948 بَدَأًتْ قِصَةُ حزني وشتاتي، بَينما كنتُ أجلسُ أنا وأطفالي أمامَ المِدفئةِ نحتسي الشايَّ لنشعُرَ بالدفءِ، دقَّ أحدٌ البابَ بقوةٍ لدرجةِ أنني ظَنَنتُ أنَّهُ سَيُكْسَرْ فَدَخَلَتْ زوجتي وأولادي واخْتَبَؤُوا ثمَّ فتَحتُ البابَ فإذا همْ جماعةٌ من الجيشِ الصهيونيّ وقبلَ أنْ أفتح فمي لأسئلهم عن مبتغاهمْ أمرني أحدُ الجنودِ المتكلمينَ بالعربيةِ بإخلاءِ المنزل، حينها كادَ نبضُ قلبي أنْ يَقفْ فماذا سأقولُ لأولادي؟ إلى أينَ سنذهب؟
أخبرتُ زوجَتي بالأمرْ فبَدَأتْ الدموعُ تُذرَفْ …والشيءُ الوحيدُ الذي استطعتُ فِعْلَهُ في تلكَ اللحظةِ أنْ أطبطب على كَتفها وأقولَ لها صبرَاً يا أمَّ جهادْ فبإذنِ اللهِ نحنُ عائِدون.
لمْ يكُنْ هُناكَ مُتسَعٌ منَ الوقتِ لنأخذَ كلَّ حاجاتِنا فأخذنا الأشياءَ الضَّروريةَ فقطْ، وسألني ابني جهاد -الذي يبلغ من العمر سبع سنوات- أبي هلْ آخذُ كلَّ ملابسي؟
فرَدَدْتُ عَلَيْهِ: لا يا بنيْ، فَكُلُّها يومَينِ وسنرجعُ بإذنِ الله.
خرجنا منَ البيّتِ في الظلامِ الحالكْ ولمْ يكنْ هناكَ مكانٌ نأويْ إليهْ فبتنا في العراءْ ليّلَتَها وفي الصّباح هاجرنا إلى سوريا بصعوبةٍ بعدَ ما صارَعنا الثُّلوج وأصيبَ أولادي بالمَرَضِ نتيجةَ البردِ الشديدْ، ثُمَّ استقرَّيْنا في مخيمِ اليرموكِ، وسكنتُ أنا و أطفالي في غرفةٍ اقترب سَقْفُها منَ الانهيارِ وأوشكتْ جدرانُها المُهْتَرِئَة على الوُقوع.
ظلَّ تاريخُ ذلكَ اليومِ مَحفورَاً في ذاكِرَتي (3-11-1948) تاريخٌ لمْ ولَنْ يُنسى بالنَّسبة ليْ، تاريخُ مغادرَتيْ عكا الحَبيبة.
ومَرَّتِ الأيّامُ وكَبُرَ ابني جِهاد وأصبحَ عُمرُهُ ثمانيةَ عشرَ عاماً فاقتربَ منيْ وقالَ ليْ: أَتَذْكُرُ يا أبي عِندمْا قُلْتَ ليْ كُلُهْا يومينِ وسَنرجِعْ، مَضى بَدَل اليومِ سنينٌ ولمْ نعدْ بَعدْ، أنا حتّى لا أكادُ أذكرُ عكا هل هيَ تذكرني؟ يا تُرى هلْ سأراها مرةً أخرى؟
أجبتُه وقلبي مُحترقٌ مِنْ شوقي لِعكا الْجميلة: مؤكدٌ أنَّها تَذكركْ فالأمُّ لا تنسى أولادها، أمّا بالنِّسبةِ إذا كُنتَ سَتراها فاللهُ كريمٌ يا بُنَيّ ربما تراها، لا أدري؟! وتَذكَّر دائِماً هذه الأية ((قُلْ مَتْى هُوَ قُلْ عَسّى أنْ يكون قَريباً))، ولكنْ إنْ اشْتَقْتَ لَهْا تأملْ القَمرَ وشاهِدْ لونَ الحريةِ فيهْ، هذا سَيعطيكَ الأملَ بالعودةْ.
ومِنْ يومها و أنا أرى جهاد ينتظرُ رُؤيةَ القمرِ بفارغِ الصبرِ وفي عينيهِ المُوشحتينِ بالحُبِ بريقٌ جميلٌ يحكي أملهُ بالرجوعْ.
كبرتُ بالسَّنَ وكسى شعري اللونُ الأبيضْ وأنا أنتظرُ رؤيةَ أحفادي فقلتُ لجهاد: متى ستتزوجُ يا بنيّ؟
وكانَ دائماً يجيبني عنِدما أجدُ فتاةً فلسطينيةً تناسبني، والحمدلله وأخيراً وجدها هيَ فتاةٌ لاجئة، سمراءُ تمتلكُ عينانِ سوداوينِ وشعراً أسود، ملامِحُها تحكيْ عروبتها، بعدما تزوجَ جهاد أنجبَ ولداً سمّاهُ صّابرْ وقالَ لي: كمْ تمنيّتُ يا أبي أنْ يُولدَ ابني في عكا وأنْ يعيشَ الطُّفولةَ الجميلةَ التي عِشتها، أَتعلمُ يا أبي لقدْ قُلتَ بأنَّ يومَ العودةِ قريبْ ولكنني أظنُّهُ بَعيداً كَبُعدِ القمرْ الذي طالما رأيتُ اسم عكا محفوراً فيه.
وضعتُ يديْ على كتفهِ وقلتُ: القمرُ وسطَ السَّوادِ يحكيْ قصةَ عكا وسطَ ظلامِ الاحتلال وبإذنِ اللهِ سنكونُ نحنُ الشَّمسَ التي عندما تشرقُ تمحيْ كلَّ ذلكَ الظلامْ، وحاولْ دائماً يا بنيَّ الصُّعودَ لِأعلى فإذا لمْ يكنْ القمرُ قريباً فادنو مِنْه بنضالكَ وجهادكَ وصبركَ، ولاحقْ حلمكَ حتى لوْ كانَ معلقاً في السماء.
بقلم المؤلفة سيما خالد حمد صقر