ورقةُ قلعة شميميس

Salamiyah, Syria

أخبرتْها أخت زوجها أنه يريد أن يرسل لها ورقتها في غضون يومين .. قالت لها ذلك في السر وبكثير من الأسف:

—نور عزيزتي شعرت أنه عليّ إخبارك.. ربما أكون قد أخطأت بهذا .. لكنّك تعلمين معزتك عندي وقلت في نفسي ربما لديك تفسير

نور: لا أفهم صدقيني حقاً هو قال لك ذلك ؟!.. سيرسلُ لي ورقة الطلاق خلال يومين! وهل أوصاك ألا تخبريني

—لا.. أبداً , سمعته يتكلم على الهاتف, قال إنه سيصحبك إلى قلعة شميميس حيث طلب منك الزواج منذ أعوام ويعطيك ورقتك هناك, أرجوك يا نور تداركي الأمر قبل أن يقع الفأس بالرأس

—أي أمر!, صدّقيني لا أستوعب هذا الكلام
طيب ركزي معي دعينا نتكلم بصراحة وأخبريني إن كنتما تمران بأزمةٍ ما في حياتكما.. ربما إن عرفنا السبب بطل العجب

—في الحقيقة أحاول منذ أخبرتني أن أفكّر, علّي أجد مبرراً لقراره هذا , منذ فترة ونحن نعيش روتيناً.. لكن لا خلاف أو صدام مباشر, علاقتنا الزوجية مستقرة, لكن منذ أسبوع لم يحدث بيننا شيء لأني متوعكة قليلاً.. لكن لا.. هذا ليس سبباً أليس كذلك؟

—ما عرضتِه لا أظنه يشكل سبباًً مباشرا لكن ربما تراكم الأسباب, فكري بعقلانية يا ...اقرأ المزيد

بائعة الياسمين

Idlib, Syria

في ذلك الصباح، كان المشهد مفجعاً، كئيباً، سحب الدخان، والغبار حجبت ضوء الشمس، الهواء مشبع برائحة الموت، كل شيء يتأوّه، يصرخ، المدينة تمطر أحزانها، مع إشراقة شمس صباح ذاك اليوم.

راح الناس يتوافدون إلى سوق المدينة فغداً هو أول أيّام العيد، وأصبح السوق كخلية نحل، ومن أمام متجري المطلّ على السوق، بدأت أراقب حركة النّاس، وأنظر إلى شجرة الزيتون العتيقة التي تتوسط السّاحة، وأرى فيها مستقبل أولادي، إنها شجرة مثمرة، شامخة شموخ المعتز بوطنه، متمسّكة بالأرض، وارفٌ ظلها، يتفيأ به النّاس.

غصّ السّوق بالنّاس، نساء، شيوخ، أطفال فرحينَ باختيار ثياب العيد، الكل يستعدّ ليوم الغدّ، لأول مرة أستمتع بضجيج المدينة، وضوضائها.

من بعيد تراءت لي الطفلة بائعة الياسمين، يستوقفها أحدهم، ليبتاع منها طوق ياسمين، تطير بجناحيها فرحاً كالفراشة، تحط أمام واجهة أحد المحال، لتختار لنفسها ثوباً، تتمايل أمامه، تلصق وجهها بالزجاج، تتراجع، تلف حول نفسها، وتحلق بجناحين من حلم، وفرح.

وولدي يقف بجانبي
ـ أبي، هل ستأخذنا إلى مدينة الألعاب؟

ـ نعم، احتضنني، قبّلني، لفحتني أنفاسه، قشعريرة تخترق جسدي.

من بعيد صوت هدير طائرات.

انفكّت ذراعيه عن عنقي، دخل مسرعاً، جلس تحت الطاولة، أغرق جسده بين ركبتيه، أختصره بأصغر حجم ممكن كي لا تطاله الشظايا، محتضناً ...اقرأ المزيد

ملاك

“قصتي لعلها حدثت, أو لعلها لم تحدث, ولكن أحداثها انبثقت من أوجاع خيالي وأنا أرقب بعين دامعة أخبار المجزرة المروعة التي هزت قرية المبعوجة. القرية التي أذهلتني بروعة جمالها يوم مررت فيها خلال زيارتي إلى سوريا.”

جلست بهدوء أهدهد ملاكي الصغيرة التي أتمت أعوامها الثلاثة قبل أيام قليلة. صوت بكائها المرتجف بدأ يهدأ على عكس أصوات الصراخ أسفل الشارع. دوى إنفجار آخر ارتج له البيت بشدة, وعلا معه بكاء صغيرتي من جديد. مسحت بيدي على شعرها الحريري وأنا أغني لها بصوت خفيض. عيناها الواسعتين ترتجفان وسط لآلئ الدموع المتساقط منهما وهي تشد بيدها الصغيرة على أصبعي طالبة منه الأمان. لقد بدأ الهجوم في عتمة الليل. دوي القذائف قذفني من سريري لأسقط على ركبتي أمام سرير مسكينتي الصغيرة.

لطالما كان بكاؤها يقطع نياط قلبي. لا أزال أذكر يوم ولادتها كيف حملتها بيدين مرتجفتين. يومها قالت لي أمي أن علي أن أؤذن في أذنها اليمنى, ولكن قلبي لم يكن ليتحمل صوت بكاؤها الناعم. مع آخر عبارات الأذان التي بالكاد نطقت بها كانت دموعي تنهمر كالسيل على خدي. ربما كنت قاسي الملامح بعد سنين صقلت جسدي في مصانع الحديد, ولكن دموع الأطفال كانت تمزق قلبي.

أخذت أغني بأعذب ...اقرأ المزيد

صديقي العزيز: الرفيق شمشون

Man leaned over green container, Directorate of Tourism, Latakia, Siria.jpg

متى بدأت قصتي مع شمشون؟ لا أستطيع التحديد على وجه الدقة, فقصتي معه مرتبطة بشباك غرفتي الراسخ في مكانه منذ ولادتي, والذي لطالما كان مكاني المفضّل للشرود. أقف خلفه بينما أشرب كأس الحليب في الصباح الباكر, وأتسلّى بمراقبة العابرين, أولئك المبكرون على الحياة والذين هم غالباً طلاب وموظفون يمشون بخطوات ثقيلة في الشوارع, التي لا يزاحمهم عليها, إلّاعمال النظافة و(النبيشة) الذين يأتون على دراجاتهم الهوائية لجمع الفوارغ البلاستيكية من حاويات القمامة. في المشهد ذاته يعبر أحياناً الرياضيون بخطواتهم الحيوية, متسببين بالإخلال بتوازن المشهد الصباحي المنذور للكادحين. وخلف النافذة ذاتها لطالما حلا لي الوقوف بينما أسرّح شعري قبل الخروج من البيت وكذلك وأنا أتحدث على هاتفي الخليوي أو أشرب القهوة عصراً.

في لحظة ما من طقس النافذة اليومي تسلّل شمشون إلى يومياتي وأصبح صديقي. رغم أن مفردة صداقة ليست ملائمة تماما ً لأننا لم نتبادل الحديث يوماً كصديقين, لأنّ شمشون لم يكن من ذلك النوع الذي يحبّ الكلام. اكتشفت ذلك يوم قرّرت أن أشاركه فطوري, ولففت له عروسة من البيض المسلوق والبندورة, وحين وصلت إلى مكان جلوسه على حافة ...اقرأ المزيد

مرآة المدينة

Seven Fountains Roundabout Manbij, Syria

مدرس التاريخ قال لنا إن الساحات كانت رمزا للموت، وأخي الشاعر يقول “تعرف المدن من ساحاتها”. أول مرة شاهدت فيها شابا ميتا كانت داخل محيط ساحة السبع بحرات، وبجانبه دراجته النارية نائمة على جنبها الأيمن تذكرت حينها مدرس التاريخ، وعرفت أن البلدية لم تضع شاخصة مرورية تدل على الساحة.

تسميتها تدل على سبع نوافير فيها مملوءة بالماء، أحيانا تكون معطلة، وهي جزء من محاولات محاكاة مدينتنا لدمشق وحلب حيث توجد في كل منهما ساحة تحمل نفس الاسم، ولكن تنقصها عنهما الرمزية المالية والأرستقراطية فلا يوجد على أطرافها ولا في المدينة كلها فرع لمصرف حكومي أو خاص.

في الصيف يهرب الناس من سجون الشقق الاسمنتية الضيقة إلى “السبع بحرات”، إلا أنها ليست مكانا مناسبا للقاءات العشاق فأهل مدينتنا محافظون، ومن ابتلي منهم بالعشق عليهم أن يستتر خلف الأبواب والنوافذ المغلقة بإحكام، أنا مثلا أقصى ما استطعت فعله هناك هو تبادل الصور والأغاني، وأخذت قبلة “افتراضية” من إحدى الفتيات الظاهرات عندي في قائمة “البلوتوث”، والتي ربما تكون إحداهن هي ذلك الرجل الأربعيني البدين الذي يسحب نفس “النارجيلة”، ويضحك بصوت عال.

تخلفت عن الخدمة العسكرية، وكلما أردت الذهاب إلى “الشام” كنت أغمز لموظف الحجز، ...اقرأ المزيد

زهرة التفاح

Jezmatiyeh souq, Damascus, Syria

السرّ الذي لم يكتشفه سوى الأطباء، هو أني مذ كنت يافعاً لم أكن أشعر بما يشعر به الرجال من ميل نحو النساء، فأصبحت أقتني كتب علم النفس، وأنكبّ على قراءتها برويّة وصبر، ثم بدأت أدمنُ مطالعة كتب الطب التي تتعلق بالفحولة، وأخيرًا ترددت على العيادات المختصة لكن بعد فوات الأوان.

نشأتُ في(الجزماتية)، من أسواق حي الميدان أحد أحياء دمشق القديمة، ومن نافذتي أستطيع رؤية الشارع وهو يعج بمطاعم المأكولات الشامية الشهيرة (كمحل أبي الخير) وبمحلات الحلويات الدمشقية الفاخرة (كجاره أبي عرب).

مضى من عمري نصف قرن، واليوم كالعادة لا أفكر في الاحتفال بعيد مولدي، لكنّي لا يمكن أن أنسى المرّة اليتيمة التي احتفلت فيها بهذه المناسبة:

منذ خمسة عشر عاماً جلبَتْ معها علبة حلوى(من محل أبي عرب)وغصنًا صغيرًا يحمل زهرة تفاح كان أبو الخير يزين به واجهة المحل.

إنها حلا أخت صديقي حازم؛ كانت آنذاك طالبة في كلية الطب، ضليعة باللغة الفرنسية لكن أخاها حازمًا طلب مني أن أدرّسها اللغة الانكليزية لتتمكن من الاطلاع على المراجع العلمية، وهكذا أصبح منزلي مركزاً لتعليم اللغات فيه مدرّس واحد وطالبة وحيدة !..كنا في أوقات الراحة نزرع البيت حركة ونحن نثرثر ونتصفح المجلات ونحضّر القهوة ونستمع إلى ...اقرأ المزيد

الطلقة ما قبل الأخيرة

Aleppo, Syria

كان محتمياً بما تبقى من ركام المنزل , عيناه تحدقان في المدى المرسوم أمامه تترقبان أي حركة تثير الدهشة كانتا كلما لاح شيء في هذا الأفق تزداد أحداقه لمعاناً , يتربص الوقت منتظراً اللحظة المناسبة مثل الصقر تماماً عندما يريد الصيد لا يشغله شاغل عن فريسته , يحبس أنفاسه ويرصد عدد الثواني بين الشهيق والزفير , يستطيع أن يرسم سداً عاتياً من التركيز أمام سيل الأفكار التي ترتطم بجدار مخيلته بين الفينة و الأخرى , في هكذا لحظات يستطيع أن يشتلع قلبه من بين أضلاعه فلا يكاد نبضه يُسمع وحتى تلك الخفقات التي تبقيه على قيد الحياة لا تسطيع أن تمنحه البقاء على قيد الإنسانية , لم يستطع أن يبعد فكرة الموت عن مخيلته فهي الوحيدة التي تنجح مراراً وتكراراً بأن تخترق جدار التركيز الذي بناه , قي تلك اللحظات يرتسم في ذهنه مشهد النهاية هل هي من رصاصة طائشة متهورة أو من شظايا قذيفة ,كانت هذه المشاهد تداهم مخيلته تجعله رهينة كل لحظة التي يعتبرها هي الأخيرة .

ماهي إلا بضع ثواني يتسلل إلى مسمعه صوت هدير يقترب شيئاً فشيئاً , يبتلع لعابه بكثير من ...اقرأ المزيد

نِهَايَةُ مدينة.. نِهَايَةُ سَعْدَة

وصل إلى المرحلة النهائية للمسابقة الأدبية “ألفا ليلة وصحوة”

إدلب التي كانت عروس التين والزيتون في الشمال السوري، باتت أَرضُها دَوَّامةَ فوضى، وَسَماؤُها مظلَّةَ طائراتٍ قاتلة.

والآن.. كما يَنْسَلُّ نورٌ خائِفٌ من فُرجةِ البابِ إلى غرفةٍ ظلماء، يَنْسَلُّ من نفسي أملٌ واهنٌ ألَّا تكون نهاية مدينتي الخضراء كنهاية سَعْدَة؛ مؤلمة، غامضة.

سَعْدَة امرأة شارفت على الستين، لا يعرف أحد أصلها، لكنها كانت نقطة علاَّم في خارطة الناس في مدينتنا إدلب.

وجهها متعدد التضاريس، كأنه القمر كما يُرى بالمنظار الفلكي.

تغطي رأسها بخرقة كالحة، من أطرافها تطل خصلات شعرها الأشيب الذي لم يعرف المشط يوماً.

كانت تعتني بما يزيد على الخمسين قطاً، وهي في الوقت ذاته لا تملك إلا خربة صغيرة.

عندما تحصل على بعض المال كانت تدسه في صدرها، ولا أحد يعلم بعد ذلك أين تذهب به، لكن التخمينات كثرت عندما هدمت جرَّافة البلدية خربتها من أجل إنشاء بناء جديد، يومها كانت سَعْدَة غائبة في إحدى جولاتها، تجمهر الناس لمراقبة المشهد المؤلم لقططها المذعورة، هجمت الجرَّافة على الخربة كما يهجم النمر على فريسته، تحطمت الجدران الواهنة بضربة واحدة، تناثرت النقود، اندفع الناس بجشع وتعاركوا.

في ذلك المساء وقفت حزينة على الأطلال مع كتل الفرو ...اقرأ المزيد

ساحة الزلزال

وصل إلى المرحلة النهائية للمسابقة الأدبية “ألفا ليلة وصحوة”

تسكننا الأمكنة وتعشش في روحنا، نسجل فيها ذكرياتنا وتسجلنا كمشاهدي السينما على كوة قطع التذاكر، وعندما نرحل عنها، نرحل تاركين نتفاً من روحنا هنا وهناك. يمر الزمان و يحدث أن نعود ذات يوم لنراها سجلت ذكريات أخرى لعابرين آخرين.

نظرت إلى الساحة وقلت لنفسي الحمد لله أن جدي وجدتي رحلا قبل هذه الحرب الملعونة. الفوضى والحجارة المهدمة يملآن المكان….كل ما في الساحة رمادي اللون، حتى أخضرها رمادي، غطى الأسود بقايا الجدران. غص قلبي عندما تذكرت ما كتب صديقي على الجدار بخط عريض ” لو كان ذنبي أن حبك سيدي، فكل ليالي العاشقين ذنوب” لتبقى شاهداً على حبه لبنت الجيران.

في تلك الساحة التي تقع على مرمى عيني بيت جدي تماما. جدي وجدتي على المقعد الخشبي الطويل المغطى ببساط ملون منسوج من أقمشة بقايا ثياب العائلة. (لهذا البساط رائحة الأولاد). قالت جدتي وهي تروي أصص الحبق -الذي تصعد رائحته إلى رأسي كلما ذكرتها-.

يراقبني جدي أنظر لعناقيد العنب المتدلية فوق رأسي فيقول: (كل عنقود يصل إليه رأسك هو لك) ثم يضحك ضحكة مجلجلة تشبه ضحكة الله وكان أقرب العناقيد حينها يبعد متراً عن ...اقرأ المزيد

الرحي

Kobani Syria

اطحني الحَبْ أیتھا الرَحَي
اطحني أیتھا الرَحَي آلامنا الجسیمة
لسنا واحداً أو اثنین
نحن آلاف الألوف، ولكن..
في أربعة أماكن منقسمون”
******
في بُقعةٍ أحكم علیھا المَوت قبضتھ وحاصرتھا رائِحتَھ من كل ناحیة كانت الحَسْنَاء
الكُردِیة تتوسد تَلَّة صغیرة ضمن مَھام وحدَتھا حراستھا والذود عنھا قُبیل مدینة
“كوباني”
مُتشبثةً ببندقیتِھا الآلیة وغنائِھا، عكفت “بیریفان” تُدندِن بكَلمات أغنیة “الرحي”
عسي أن تطرد الفزعَ والیأسَ اللذین ینھبان أرضَھا
بدا الظلام في ھذه اللیلةِ الغَطشاء سرمدیاً بلاانتھاء، لینزوي أملُھا في أن تمحق
سوادَھا شمسُ النھار، فلم تبزغ غیر شموس الانفجارات وألسنةِ اللھب
حتي الصمت الذي یتخلل فترات القصفِ فھو مُریب مُوحِش لا یوازیھ إلا وَحشة
قُلوب الدواعش
مِسكینة ..ربما لو كانت لھا قصةُ أخري لأصَبحت من نَجماتِ السینما أو مَلِكات
الجمال
ولما لا؟ وھي ذات الوجھ الملائكي و العینین العسلیتین النجلاوین اللاتي تأسران
قلوب أشد الرجال
لكنھ خیارَھا ..أن تُقتل دون قومھا.. مُقاتلة من البشمرجة.. واحدة من اللذین
لایھابون المَوت
وبالرغم من قسوة الاختیار لم تذھلْ عن أن تعني بمواطنِ أُنوثتِھا ، فضَفَّرت
خصلات شعرِھا النحاسي في جدیلةٍ واحدةٍ كسنبلة فرنسیة
ركضت “بیرینا” نحو تلةٍ أخري وسُیول الرَصاص تتدافع مِنْ حولھا فتَلطخ
حذائُھا رغماً عنھا ...اقرأ المزيد