ساحة الزلزال

وصل إلى المرحلة النهائية للمسابقة الأدبية “ألفا ليلة وصحوة”

تسكننا الأمكنة وتعشش في روحنا، نسجل فيها ذكرياتنا وتسجلنا كمشاهدي السينما على كوة قطع التذاكر، وعندما نرحل عنها، نرحل تاركين نتفاً من روحنا هنا وهناك. يمر الزمان و يحدث أن نعود ذات يوم لنراها سجلت ذكريات أخرى لعابرين آخرين.

نظرت إلى الساحة وقلت لنفسي الحمد لله أن جدي وجدتي رحلا قبل هذه الحرب الملعونة. الفوضى والحجارة المهدمة يملآن المكان….كل ما في الساحة رمادي اللون، حتى أخضرها رمادي، غطى الأسود بقايا الجدران. غص قلبي عندما تذكرت ما كتب صديقي على الجدار بخط عريض ” لو كان ذنبي أن حبك سيدي، فكل ليالي العاشقين ذنوب” لتبقى شاهداً على حبه لبنت الجيران.

في تلك الساحة التي تقع على مرمى عيني بيت جدي تماما. جدي وجدتي على المقعد الخشبي الطويل المغطى ببساط ملون منسوج من أقمشة بقايا ثياب العائلة. (لهذا البساط رائحة الأولاد). قالت جدتي وهي تروي أصص الحبق -الذي تصعد رائحته إلى رأسي كلما ذكرتها-.

يراقبني جدي أنظر لعناقيد العنب المتدلية فوق رأسي فيقول: (كل عنقود يصل إليه رأسك هو لك) ثم يضحك ضحكة مجلجلة تشبه ضحكة الله وكان أقرب العناقيد حينها يبعد متراً عن رأسي.

تغطي الساحة شجرة مشمش مصابة بالفصام نمت وكأنها شجرة دلب. (أكل منها ألف بني آدم) يكرر جدي في كل موسم. تقبع في الطرف الآخر من الساحة شجرتي توت تشابكت أغصانهما وكنت مع أولاد الحارة نتنقل بينهما كالقرود. في ظلهما و حول المقاعد الخشبية كانت قشور البذر والنمل يشكلان جزءا من جغرافيا المكان في آخر النهار، لكن الساحة ومع كل صباح كانت تعود نظيفة وكأن أحداً يحاول إخفاء ذكريات الليل السابق.

في إحدى ليالي آب بعد منتصف الليل، يوقظني صوت جدتي ملهوفة تقول: ( انهض…أيقظ خالك فورا واخرجا إلى الساحة، اتصلت خالتك من حمص وقالت أن زلزالاً سيضرب اللاذقية هذه الليلة، سأخبر بقية الجيران..). عندما أيقظت خالي معلناً أن زلزالاً سيقع، صرخ غاضباً: (…… أخت اليابان، و…. أخت ريختر) وعاد إلى النوم…كانت تلك المرة الأولى التي اسمع فيها خالي يطلق شتيمة كتلك في البيت. لم تتجرأ جدتي على إيقاظ خالي مرة ثانية، لكن قلبها بقي معلقاً على باب الدار طيلة تلك الليلة التي قضاها أهل القرية مع بعض أمتعتهم في الساحة. أحضروا معهم ما يلزم للنوم ولم ينم أحد فعليا إلا الأولاد; استمر السمر وتبادل أهل الساحة الحكايات والنكات التي كان بطلها الزلزال المزعوم حتى انقضى أجله مع قدوم الفجر ثم عاد الناس إلى بيوتهم ساخرين من قلة عقلهم. صرخ أحدهم مازحاً: (السهرة غداً في ساحة الزلزال) ومن يومها، علق بها هذا الاسم.

أحد عشرة سنة بعد هذا اليوم. الجو بارد والوقت متأخر، الكثير من الناس في الساحة، ننظر جميعاً نحو الأرض صامتون لا نتبادل سوى الخوف. أصوات بنادق ورشاشات من كل الاتجاهات. خالي إلى جانبي وولده يلبد مذعوراً بين ساقيه، ينظر خالي إلى مستشعرا الخوف في عيني، يغمزني بطريقته القريبة المعتادة ليخفف عني ثم يهمس لي (رحم الله أيام الزلزال).

حتى لو تغيرنا فللأماكن ذاكرة، ترانا فتعرفنا وتذكر كيف كنا. ومهما مر من خطوب عليها نعود إليها فتستقبلنا بحب لتجلو همنا وتعيدنا أنقياء.

ابتسمت ساحة الزلزال و فاحت رائحة الحبق في المكان، أزهرت شجرة المشمش ونهضت جدتي لتمسح الأسود عن الجدران.

 

المؤلف، غيث زريقي:
أنا غيث من سوريا … بلاد الشمس، حيثما نظرت تجد سماء زرقاء وحماماً وغاراً فوق راسك.
أعيش حالياً في فرنسا لمتابعة دراستي والحصول على شهادة الدكتوراه بالهندسة الزراعية ..رصيدي هو الحب الذي تشربته من أرضي وأهلي مع صور لذكريات حلوة تسكن ذاكرتي. طموحي كبير …والحياة بالنسبة لي فرصة لن تعاش مرتين
لذا حتى لو تأكدت أني ذاهب إلى الجنة فإني سأدعو الله بأن يجعل طريقي إليها… أبعد الطرق.