كثيرون مروا من امامها وكثيرون ناموا في جوفها بحثا عن الدفء في ليالي تشارين الباردة …. كانت تمد لهم يدها بحنو ودفء عجيبين …… انها ” الاروى ” القابعة منذ الازل على حد سيل ” جميلة ” وعلى مقربة منها من الناحية الغربية مراح ” جميلة ” وشلالتها المطلة من عل ، اما على الحد الجنوبي منها فيقع “مقرص سلمان ” الذي امتدت له ذات ليلة ليلاء ناب افعى لتناله بمقتل .
كان الصيادين حينما يرونها من اعلى الجبل يستبشرون خيرا ، لأن ليلتهم ستكون ذات طعم خاص ، حيث الماء الزلال الذي يسعى بين اقدامها رقراقا منعشا ، وحيث الحطب الذي جرفته السيول ينبيك بان البرد لن يكون له مستقرا ولن يأخذ مأخذه من الاجساد التي هدها التعب ، في رحلة البحث المضني عن ” البدن ” الذي يوغل في عناده وتيهه وغطرسته بل وكبريائه المجبولة في وجهه العنيد العصي على الصيادين الاغرار والمتمرسين معا .
كثيرون اقاموا امامها متهجدين في محرابها ، تحفظ الذاكرة منهم على الاقل المرحومين باذن الله ” محمد ابن عباس واحمد ابن عباس ومحمود الحمران وابراهيم ” عفن ” وسليمان ابن بخيت وحمد المراحلة وخليف ابن حميطان وخليف ابن عبدالدايم وصالح ابن محمد ” واخرين كانوا يجدون ذواتهم على سيل ” جميلة ” المنحدر ببطء، وفي ساعات المساء كانوا يتسامرون ويتمازحون مزح الرجال ، يلقون كل اتعابهم خلف ظهورهم ، مخططين لقنصة اليوم التالي حين يتوسطهم ” اميرهم ” ليخطط ويعلن ان مقانيص اليوم التالي ستشمل مناطق عدة لعل الخير يكون فيها ولعل الرزق يأتيهم من حيث لا يحتسبون .
العام الماضي اعلن البعض ان ” الاروى ” ماتت ، وانها اندثرت بفعل سيول جارفة جراء المطر الغزير الذي داهم الجنوب في اليوم الثامن من الشهر الخامس على غير موعد ودون سابق انذار ، وترك ذلك الخبر في نفوس عشاق ” الاروى ” الكثير من الوجع ، فثمة ذكريات لا يمكن لها ان تعود بغير وجود تلك المعشوقة التي توحدت مع الناس وتوحدوا معها ….. فقررنا ثلة من الصيادين الوصول اليها في الشهر الماضي لنقوم على الاقل بواجب العزاء لها ولجوارها من المناطق …. لكن المفاجأة كانت لنا وجها لوجه …. فمن بعيد شاهدنا ” الاروى ” شامخة كما كانت ، وصرخ اولنا : انها حية ….. ” الاروى ” لم تدفن ايها الناس …. وحين وصلناها بدت مثل فتاة في مقتبل العمر لم تلامس وجهها بعد علامات الكبر والشيخوخة .
كان لقاء حميميا وقلنا ” للاروى” : الحمد لله على سلامتك لكن حزنا شفيفا مر على القلب فجأة ، حين تذكرنا من مشت اقدامهم هناك ومن ” علقوا البدن ” على مصطبتها لكن الموت طواهم الى الابد بينما ظلت هي شاهدة على انهم مروا من هنا .
1 . “الاروى ” كهف ياوي اليه صيادون الغزال في منطقة الطفيلة جنوبي الاردن “200 كلم عن العاصمة عمان ”
2 . البدن : غزال جبلي يعيش في جبال جنوبي الاردن ويسمى في مناطق اخرى الماعز الجبلي . والبدن هو ذكر الغزال الجبلي في حين ان انثاه تدعى ” العنزه ”
3 . “جميلة ” : منطقة على مقربة من الاروى ايضا يقصدها الصيادون ولكن في فترات الصيف .
4 . “مقرص سلمان ” : مكان على مقربة من الاروى وسمي كذلك لان احد الصيادين لدغته افعى هناك فمات وسمي المكان باسمه تخليدا لذكراه .
بقلم المؤلف عبدالمهدي عطالله القطامين