تطل عيناه المحمرّتان من تحت بحر لثامه الأزرق، وتنطبع بهدوء على المرآة العلوية العاكسة. لم أتبين منه سواهما وكفّان بدا لي أنهما ترقصان في الفضاء كيفما اتفق، بينما الحال أنهما كانتا تدلان سائق الحافلة على الطريق إلى جبال أهقار.
يمضي الوقت على مهل، يتلكأ الزمن وتتمدد المسافات رافضة الانطواء السريع. الطريق في الغالب غير معبدة، ولا تكاد تُرى من النافذة غير رمال تلفك من كل الجوانب. وحتى أبدد بعضا من وحشة الطريق، غرقت في انعكاس وجه عزوز الملثم على المرآة، محاولة تفكيك طلاسمه دون جدوى. حين أعيتني محاولاتي انكفأت على مقعدي واكتفيت بالنظر الهادئ الذي قطعه عزوز بتشغيل موسيقى ساحرة.
-إنها موسيقى إمزاد، ستعجبكم حتما.
قالها عزوز وقد ضاقت عيناه مبتسمة، سأله أحد السياح عن معنى كلمة إمزاد، فأجاب مبتسما:
-تسمى هذه الموسيقى باسم آلة إمزاد. وهذه الآلة ذات الوتر الواحد لها تاريخ عريق يعود إلى آلاف السنين. كانت الحروب بين قبائل الطوارق دائمة، فاحتارت النسوة في طريقة إيقافها، فصنعن الآلة وتدربن عليها، وما إن حطت الحرب الجديدة أوزارها حتى شرعن في عزفهن الساحر الذي فتن الرجال، فما كان منهم إلا أن ألقوا بأسلحتهم موقفين الحرب.
يعلو هتاف الإعجاب بالقصة في الحافلة، ليصل عزوز سؤال آخر عن سبب تغطية رجال الطوارق لوجوههم عكس النساء، فيجيب:
-كانت هناك وردة جميلة تنبت في الصحراء، ثم لم يظهر لها أثر لوقت طويل رغم بحث الطوارق عنها، في إحدى رحلاتهم وجدها أحدهم فهرع لقبيلته معلنا الخبر السار. توجه الجميع صوب المكان، وما إن اقتربوا حتى هالتهم الرائحة الكريهة المنبعثة من الوردة، فلفّ الرجال أغطية رؤوسهم على أنوفهم اتقاءً للرائحة، بينما منعت النسوة من الاقتراب، وهكذا بقيت وجوههن مكشوفة إلى الآن.
تعلو الهتافات مجددا، ويشرع البعض في محاكاة مرحة للطريقة التي يصفق بها عزوز على أغاني إمزاد. أتأمل هذه الهالة التي تحيط به والتي تشع في من حوله الفرح الدائم، ويسري في داخلي تيار كهربائي خفيف يتكثف في مكان ما يسار جسمي، وأسأل نفسي: هل وقعت أيتها المجنونة؟
-وصلنا، مرحبا بالجميع في أهقار.
قالها عزوز بعد أن وقف ليغيب انعكاس وجهه من على المرآة، اشرأب عنقي باحثا عنه وسط جموع الواقفين المتحمسين للنزول دون جدوى. الكل يتداعون على باب النزول كأطفال متحمسين، وترن كاميراتهم التي شغلوها للتو معلنة استعدادها للانقضاض على اللحظة وتخليدها.
يستقبلنا الجبل بصيغ مختلفة كلها من وحي خيالي المتوثب، من بين أكثر احتمالاتها حماقة تلك التي تخيلت فيها أنه يضحك على سذاجتنا، نحن الذين نظن أننا اكتشفنا البارود، ونتصرف كأول الواصلين إلى هذا المكان منذ خلقه! ينتشر السياح في المكان لالتقاط الصور، يغالي بعضهم في اتخاذ أوضاع مجنونة أمام الجبل المنتصب في مكانه منذ آلاف السنين، لو نطق هذا الجبل لحكى قصصا عجيبة عن الذين مروا من هنا. بعض القصص دونها القدماء في شكل صور صمدت متحدية القرون المتعاقبة، وبعضها احتفظ بها الجبل أسرارا لا تقبل البوح.
التفت باحثة عن عزوز، قلت إن الجبل كتوم ولن يبوح بما سأقوله له، لم أتبينه وسط المتواجدين، سألت عنه فجاءتني الإجابة المخيبة، لقد عاد إلى المدينة لاستقبال وفد سياح جديد اتفق معهم مسبقا على أن يكون دليلهم إلى أسكرام حيث أمضينا ليلة البارحة. يذكرني الندم بموعد طائرتي مساء اليوم، فأصده بوعد عودة قريبة إلى مكانٍ سكنني وامتلأت بتفاصيله.
بقلم المؤلف يوسف بعلوج