الهواء رطب، تحت معطف جلدى مغطاة رقبته بالفراء يتحرك جسدها فى نشاط دون الإهتمام ببرد الشتاء والوحل الذى خلفه المطر على الطرقات. توقفت على جانب الطريق، السيارات لا تمر، سارت نحو مقعد رخامى ندى، أخرجت من بين صفحات الكتاب الذى تحمله فى يدها ورقة، وضعتها فوق المقعد وجلست متصالبة الساقين.
تساقط رذاذ خفيف، خبأت الكتاب بين جسدها والمعطف، وإنتظرت وصول سيارة. الدقائق تمر، المطر يشتد والسيارات لا تأتى، ذهبت سيراً على الأقدام محتمية بشرفات المنازل.
المحلات مغلقة، الناس يحتمون بدفء بيوتهم، وحدها تسير تحت المطر ورجال البوليس الذين يحتمون بعرباتهم المصفحة التى تجوب كل مكان فى المدينة.
بعد نصف ساعة وصلت إلى الجامعة بمعطف مغسول وحذاء مغطى بالوحل. وقفت مع حشد من الطلاب أمام الكلية إلى أن حان موعد الإمتحان. دخلت وزملائها إلى القاعات، وضعت القلم فى ورقة الإجابة، لم ترفعه إلا بعد إنتهاء الثلاث ساعات زمن الإمتحان.
توقف المطر، انحسرت الغيوم وكشفت عن زرقة صافية. أناس بأصوات مرتفعة يأتون من كل حدب وصوب، يتوافدون فرادى وجماعات وكأنه يوم الحشر، صيحاتهم تزداد إيضاحاً كلما إقتربوا من الجسر العابر للبحر.
وقفت فى ذهول تراقب المشهد، ومثلها مئات العيون، فى الشرفات، فوق أسطح البنايات وعلى الأرصفة يراقبون ذوى الأصوات المرتفعة فى تقدمهم نحو ما لا يعلمون.
يسير المتظاهرون فى سرب كبير، حاملين فوق أعناقهم على مسافات متساوية ثلاثة من زملائهم يهتفون بقوة إلى درجة برزت معها عظام وجوههم، والحشود من ورائهم تردد وكأنهم صدىً لأصواتهم.
الخوف فى العيون يرقبهم، والحشود فى سيرها تتقدم غير مبالية بتحذيرات العيون. شعرت بالتيه لبرهه، وكأن المدينة ليست مدينتها. أعادها من شرودها تمثال حصان أبيض جامح، وصوت إمرأة إلى جوارها تصرخ.
كانت المرأة التى بدا عليها الفقر جلياً تهتف
– أسقطوها، أسقطوا من دمر حياتنا وحولها إلى جحيم
فى حين كان عدد من الشباب يمتطون الحصان التمثال ليسقطوا لافتة تخبر نقوشها كل شخص تقع عينه عليها، بأن هذا لأجله.
سقطت اللافتة، انطلقت الزغاريد من الشرفات ترفرف، وإرتسمت الفرحة على وجوه الجميع. وحدهم أصحاب البذلات السُود لم يفرحوا. ارتفع دخان فى زخرفات كبيرة مائلة إلى السواد، دَوت أصوات طلقات فى الهواء.تحولت صيحات الفرح إلى صرخات خوف، تقهقر المتظاهرون إلى الوراء وسقط بعضهم مغشياً عليه من شدة التصادم.
هرولت بإتجاههم، رن فى أذنها صوت أمها
عدينى بعدم المشاركة فى المظاهرات
أخبرينى، كيف أتخلى عمن يعرضون أنفسهم للموت لنحيا نحن؟!
همهمت إلى صوت أمها البعيد وركضت.
تجمع المتظاهرون فى أحد الشوارع الفرعية، ومن جديد رجت الهتافات سماء المدينة. انضمت إليهم، وأصبحت من السرب الغاضب.
يهتفون معاً كجوقة غنائية، عداها، تسير إلى جوارهم صامتة، تنظر إليهم كلما انطلقت أصواتهم بالهتاف، شجعها أحدهم “هيا لنهتف معاً”.
فتحت فمها، خرج صوتها ضعيفاً، ضاع وسط آلاف الأصوات العالية؛ لكنها لم تستسلم، رددت مرات كثيرة، وفى كل مرة كان الضعف ينحصر وتزداد نبرتها إرتفاعاً، وعندما وصلت مداها، كان صوتها قد أنطلق يعلن بأن الشعب يريد.
بقلم المؤلفة دعاء جمال