رزاز المطر الخفيف ونصف قرص الشمس البرتقالى، يصنعان من يناير الذى يطل من خلف الساعات القليلة المتبقية على إنتهائه قديسا أرخى إزاره على أكتاف القاهرة ليمنحها الدفء ثم ًشرع فى مباركتها …..
خطوات المارة، صفارات المارقبين، أصوات الباعة الجائلين و أجارس إقلاع القطارات تشعل المكان بموسيقى سعيدة تارة، حفاوة باستقبال غائب، وتارة أخرى لوداع مسافر تتساقط زهور بنفسج.
بردائها الأحمر الأنيق كأيقونة عيد الميلاد، أميرة للتو خرجت من كتب الحكايات، جيئة وذهابا تقطع المسافة الفاصلة ما بين المقهى القديم بيافطته الحديثة، مقاعده البلاستيكية، ومفارش الطاولات بألوانها الصفارء الفاقعة …. وما بين بوابة دخول المحطة.
بعيونها و خصلات شعرها الحائرة تفتش القطارات الاتية و التى لم تأت بعد…
وعيناى هناك مصلوبتان على عتبات عينيها، تشعلان من قلبى بخواراً، يذوبان أملاً فى القرب والمتابعة، تنتظارن أن ترفع الحجب، وترمى لهما الإشارة لأبدأ طقوس الاعتارف و الاغتارف.
لم تكن لترانى …. فعيونها هناك تسأل عمال التحويلة، سائقى القطارات، بائعى الجرائد، مفتشى السكك الحديدية وأشجار الطريق، عن شخص أخر لم يحن وقت وصوله بعد ….
تهرب الشمس من هذا الجو البارد لتتركها هى فى تجوالها كراقصة باليه تتعلق بها عيون كل رواد المحطة، صفارات القطارات، أصوات الحمالين، وتبدأ أزهار الفانيليا فى التساقط من حولها.
نسيت حقائبى، خمسة وثلاثون عاماً مختبئة بداخلها، الشيب الخفيف على فودي، كتب التاريخ التى قأرتها، شباك التذاكر، نظارتى، النداء الأخير للموعد الأخير و القطار الأخير … نسيت كل شىء وبت مريدا يتمسح بعتبات عيونها الخضارء … يهتز حباً، وأسى على عمره الذى ضاع بعيداً عن هذا الفيض الذى يغمره ويغرقه، فما يملك إلا أن يموت وجداً.
فقررت ألا أموت، وبشجاعة نادرة قررت الاقتارب و الإغتارف … تتبعت خطواتها … تملأ صدرى رائحة القهوة التى تحيطها، تركب القطار وعيناها يملؤهما الحزن … أسير على الرصيف بمحاذاتها … تجلس بجوار النافذة .. ترمى بعيونها الى السماء … أقترب من النافذة … تلاحظنى … تنظر ناحيتى للمرة الأولى تفتش ملامحى، كاد يغمى علي، تمالكت نفسى، اقتربت أكثر من النافذة، بينما تحولت نظراتها إلى توجس وحذر … أخرج تنهيدة قويه لتصطدم بزجاج النافذة البارد فيتكوم بخار الماء على الزجاج، أجد نفسى وبدون أن أشعر أرسم قلباً … فابتسمت، وأشرقت شمس عينيها لتضىء روحى، بينما انطلق القطار غير عابىء بوجدى.
أطلق صفيار عظيماً ثم انطلق … وقفت مذهولاً لفترة قصيرة ثم حاولت اللحاق به ولم أستطع، فعدت أجر حسرتى، و أنا أتحسس مكان قلبى الفارغ وزهور الفانليا تتساقط من حولى …. حملت حقائبى واتجهت إلى الموظف المتكوم خلف الشبك الزجاجى، أسأله عن القطار المتجه إلى الإسكندريه فوجئت بأنه ذات القطار الذى اقتلع قلبى منذ قليل .. تساقطت السماء من حولى غضباً وحسرةً.
سألت الموظف عن موعد القطار التالى.
رد الموظف من وارء زجاج نظارته السميك جداً وبعصبية الدقائق الأخيرة فى وردية عمله الممتدة لثمان ساعات أن هذا القطار هو آخر قطار لهذه الليلة.
بقلم المؤلف محمد سيف البدر