لطالما توكّأ منسأته وخرج باكرا ، ولطالما اعترضت طريقه ، فيمر بمحاذاتها يتمتم بكلمات منها المفهوم ومنها المبهم ..تلك المرأة السّافرة التي تعتلي نبع الماء المجاورللمسجد العتيق وسط المدينة، احتلت المكان قبل أن يولد هو بأعوام ، ظلّت تعترض طريق المارين كما يظن، أوكما يوحي إليه خياله العالق في شقاوة وهم طال أمده، استحالت عقدة تنغّص عليه أيامه وتشوّه حسن المدينة ! إنّها تقف في طريق تسوّقه أو خروجه إلى ساحة المقهى القريب كلّ صباح. غالبا ما يتوقف قبالتها يمطرها بوابل من الشتائم ثم يبصق على وجهها ويمضي لسبيله.
صارت تلك عادته مذ شبّ وعرف معنى العار والفتنة .إنّه سي الحاج عجوز تخطّى عمره السبعين عاما، كان صاحب مقهى لكنه حين كبر تخلى عنه لأبنائه . ينادونه في المدينة سي الحاج لأنه درس في صغره بالمدرسة القرآنية، وكل من يدرس بها يعلق له الناس ال”سي” وساما للعلم فيلحقونها باسمه ، فصار اسمه من الحاج إلى سي الحاج.
في صغره لم يكن يكترث لها، يمضي وقته مع أقرانه في اللعب واللهو دون مجاراتها أوالإنتباه إلى مفاتنها ، يأتون ماء النبع يشربون ويغتسلون ثم يرحلون، لكنّه حين شبّ صار يتحاشى النّظرإليها، يغضّ بصره أو يميل برأسه عنها، فيشرب الماء أويتوضّأ للصلاة ويمضي ، لكنه اليوم لا يملّ لحظة عن تكرارما ظلّ يقوله في شبابه للناّس وللزّائرين للمكان:
ــ هذه الفتنة أفسدت جمال المدينة! لولا أنّهم أبعدوها عن نبع الماء وعن طهارة المسجد ومرتاديه؟ لولا سترواعريها لعاد للمدينة بها ؤها القديم ؟! هكذا يظل فاه ينزف كلمات مؤلمة تومئ عن جرح غائرفي روحه ،إنه الخجل بإيمانه من هذا العري المتربّع مند أجيال هاهنا. يواصل:
ـ لا أحد فكّرحتّى في استبداله بشيئ آخر تنشرح له النّفوس مثلما تنشرح لصفاء ماء الفوارة..
الفوّارة عين تتوسط مدينة سطيف البهيّة ، تأخد عنها شهرتها وهي تنضح بالماء لا تمل مند الأجداد الأولين، يقابلها مسجد المدينة، كان الناّس قديما يأتونها يتوضّؤون ويدخلون المسجد للصلاة ،حتى ذلك اليوم المشؤوم الذي جاء فيه الحاكم الفرنسي على المدينة بتمثال لامرأة عارية صنعه نحّات فرنسي مشهور وجسّده فوق العين ونُصْب المسجد حتى يزعج المصلين ويغيضهم.
يجلس سي الحاج عادة في المقهى المجاور للعين، يروي للزوار قصّة عين الفوارة وأنها لم تكن بهذا الفسق قبل مجيئ المستعمر، لكنه دائما ما يتمنى لو غيّرالمسؤولون في بلده ذلك التمثال بشيئ آخرلا يخدش حياء الناس.. كما يحكي أيضا عن استغلال بعض الشباب للوضع الأمني المتردّي في عشرية الدّم والإرهاب ونسفهم التمثال بالمتفجرات.
ـ يقول سي الحاج : يومها نمت هنيئا مرتاح البال، فقد انتصرت المدينة لشرفها، ثم ما يلبث يتنهّد بحسرة مسترسلا قوله:
ـ تلك الراحة لم تعمّر طويلا فقد تغيّرالوضع صباحا فرمّم التمثال وعاد إلى طبيعته في بضع سويعات،لكأن الجميع متواطئ في ترسيم هذا العار تراثا للمدينة . إيه، لقد أصبح كذلك يكرّر:
ـ مدينتي جميلة والفوارة نبضها، لكن تلك المرأة شوّهتها، يتنهّد عميقا ثمّ يضيف:
ـ سأظل أحكي للأجيال عن مدينتهم وعن هذه المرأة الفاسقة التي سرقت بريقها،احتلت نبعهم ولوّثته بنجاستها. سيظل التاريخ يحكي من بعدي أنّها ليست منّا ولا من أفعالنا،إنّها بقايا استعمار.
المؤلفة، طيوان سامية:
كتابة القصص القصيرة والشعر النثري..لا أفضل الأساليب الخالية من الصور البيانية والمحسّنات البديعية.