خارت قوى ركبتاي وأنا أسير على جانب الوادي لبلوغ منزلنا الواقع قرب البئر في بلدة قاع اسراس. مفعول السجائر على المعدة الخاوية جعلني كقطعة ورق تقف في وجه الرياح. فكرة العودة كانت تطرق جمجمتي، لكن عن أي عودة أنا أبحث؟ فأنا كلما تقدمت بقدمي خطوة إلى الأمام عادت ذاكرتي ألف خطوة إلى الوراء.
الآن أنا أقف على بعد بضع خطوات من المكان الذي قصدته. كان الستار متدليا على الباب. تصلني أصوات موسيقى جبلية ورائحة طاجين السمك. كل قطعة في جسدي ترتعش، زادت سرعة دقات قلبي، ماذا سأقول له عندما أراه؟ أو ماذا سيقول هو عندما يراني؟ هل سيتذكرني بعد كل هذه السنين؟
طرقت طرقتين على الباب وقلت السلام عليكم. انقبضت عضلات وجهه وانحبس دخان الكيف في حنجرته، كاد يختنق من فرط السعال، وقع بصري على قنينة ماء فقدمتها له، شربها بسرعة وتعانقنا، رائحته لم تتغير، رائحة العرق ممزوجة برائحة دخان الكيف.
-لقد صرت رجلا يا عماد.
قال وعيناه تتغرغران بالدموع، حقدي الشديد عليه خيّلها لي دموعا مُصطنعة، لم أقل شيئا، فقدت قدرتي على الكلام.
-قالوا لي أنك قد تفوقت في دراستك عكس إخوتك.
قلت: لو كانوا وجدوا ظروفا مناسبة لتفوقوا هم أيضا، وما كان حالهم هو الحال
فلاذ بالصمت ونظر إلى الأرض، فلذت بدوري.
-ما به وجهك؟
رفعت عيني فوجدته يتطلع إلي، فقلت: تعاركت مع أحدهم.
لم يسألني أكثر. نهض من مكانه واتجه نحو الموقد ليتفقد طاجينه، قال وهو يتذوق قطعة منه:
-هذا الطاجين لذيذ لكنه لن يكون من نصيبك لأنك جئت في وقت غير مناسب.
قلت في نفسي أنا دائما أجيء في الوقت الغير المناسب، أنا أصلا جئت إلى الدنيا في وقت غير مناسب، في أحد الأيام أخبرتني أختي أنه لم يُحتفل بولادتي.
سألني: مصطفى الشاوني الأصلع، هل تذكره؟
أجبته: ذاك الذي سرق مالك.
أطلق ضحكة عالية وأردف: لقد سامحته. المهم هو الآن في سجن واد لو، والآن أنا ذاهب لزيارته وسآخذ هذا الطاجين له. وأنت عُد إلى تطوان وتعال في وقت لاحق.
حينما أكمل جملته امتقع وجهه وتصلبت ملامحه وجحظت عيناه وهو يتطلع إلى الباب، نظرت إلى حيث ينظر وإذا بمصطفى الشاوني الأصلع يقف على العتبة مُحملا بكيس كبير من قنينات البيرة.
سأله مرتبكا: متى أطلقوا سراحك؟
رد عليه الشاوني في عدم فهم: من هم؟
عاد يكرر السؤال: متى خرجت من السجن؟
كان للشاوني من الذكاء وسرعة البديهة ما يكفي ليدرك نيته، تجاهله والتفت إلي:
-عماد؟ أنت عماد الصغير؟
شعرت أنه يشفق علي، هززت رأسي بالإيجاب وانصرفت دون كلمة. حينما ابتعدت عن المنزل سمعتهما يتشاجران. كل النقود التي كانت بحوزتي نفذت، بعت هاتفي بربع ثمنه لأستطيع العودة إلى تطوان، قبلها كان علي أن أصل إلى مدينة واد لو مشيا حيث يمكنني إيجاد وسيلة تقلني. أدركني الليل وأنا أسير على الشاطئ، قوارب الصيادين في البحر بدت بقعا تخترق هيئة الظلام. القمر كان قد هجر السماء الليلة وترك للظلام السلطة المطلقة، الظلام هو سيد المجهول، وأنا قد سلمت أمري للمجهول ولسيده الظلام ولم يخدعني أي منهما.
رميت عبء الغد وعبء الأحلام واخترت المجهول سكنا والظلام وطنا.
بقلم المؤلف معاد محال