مازال البرق یخطف بعض الظلمة، ویباغتني برجفة. ربما یقصدني، وربما یُصبح بشارة أو وعید. ستختفي الظلمة عما قریب، ویبھت البرق، وسیعود النھار حتماً. ھذا رجائي، فعدتُ للدار بعدما توجستُ، وارتجفتُ، ورمیتُ ما أنا فیھ بغطاء ثقیل.
ما إن صحوت من نومي بعد طول الرقاد،حتى دنوتُ من أمي، والتصقتُ بھا، ننظر للشارع الخالي، ورذاذ المطر یھبّ على وجھي عنوة. تحسستُ ساعتي بعد مدة، فكساني الحزن والغمّ برداء ثقیل، وفتحتُ النافذة الأخرى، فأیقنتُ أن السماء تغسل أرضیتھا الرمادیة. اللیل ھرب من الصبح، والصبح وقفٌ على لیل، والليل والصبح في ھذه اللحظة شيء واحد: ) الوقت متأخر. لا علیك ( فارتدیتُ ملابسي، وھممتُ بالخروج، وفتحتُ بوابة الدار. نظرتُ الطریق. الطرق موصدة أمامي: ) لن أصل إلى ما أرید( فرضیتُ كَرھاً بالجلوس، والنور الطبیعي والصناعي قد ذبلا، وانطفأ برذاذ المطر. أشعلتُ سراجاً لا یُسمن ولا یُغني، وتحلقنا حولھ، وملأنا بطوننا. عقارب الساعة ھاربة، ومختفیة. لا أحد منا یجید الحكي، ولا یملك غریب اللفظ، أو النكات. الكل یدور، ویبحث في وجھ الآخر عن شيء نغلّ بھ الوقت، ونزج بھ قرباناً لصبح آتٍ. ندور جمیعاً بین الغرف. ملّ منا الدوران. ذبالة ضوء السراجة لا تفي بقراءة سطور أي كتاب، فطللتُ بجذعي من النافذة. المطر یھبّ على وجھي، الذي اكتسى ببرودة مبھمة.
***
النسوة یحملن الجرار المملوءة بالماء السماوي، یذھبن إلي ترعة الباجوریة، ویعدن سریعاً،
لیحملن غیرھا. النشاط یدبّ في أجسادھن، ولا یخجلن من كشف بعض عوراتھن. والرجال في قعر البیوت یتسامرون مع ذكریات شحیحة، ودخان النرجیلة یغطي حالھم الممزوج بالسكون. صنعتُ مركبة ورقیة، وألقیتھا في بركة ماء، لكنھا لم تتحمل عُري النسوة في شارعنا، وانتفخت أحشائھا بالماء، ومارت، ولم أجد لھا أثراً.
شارعنا- شارع النصارى- ینخفض حیناً، ویرتفع حیناً. حین ارتفع بالماء شبراً، تفتق ذھن الرجال والنسوة بإقامة السدود. كلٌ علي حسب مساحة داره، وبإقامة السدود، أو الحدود، بدأت الشتائم، والاتھامات، واللعنات. لا یوجد بدارنا نسوة غیر أمي العجوز، فوقفتُ أرقب النسوة، وھن یصنعن السدود
– یا آمال، كمّلي السد للآخر یا لئیمة
فأكملتھ مرغمة، والمطر المنھمر لا ینقطع. وبدأ الرجال والنسوة یخافون تصدع السقوف الخرسانیة.
نظر أبي ناحیة الیمین، وناحیة الیسار، ثم خرم سدّاً من السدود، والسدّ الثاني ینظره، وینتظر أن تدسن النسوة علیھ وھو فرح. صعدنا –أنا وأخوتي-لإزاحة الماء من السطح، وقلتُ:
– النھارده الجمعة – یعني إیھ؟ – القیامة – مش فاھم! – سنموت بالماء – مفیش فایدة من نشل الماء فنظرتُ من فوق السطح الخرساني إلي أسفل، فوجدتُ السدود كلھا قد انمح ْت.
***
ھامش
1- حین كفّت السماء عن الأرض، وقفلت صنبورھا، واطمأن الناس بشارع النصارى؛ كفّت أیادیھم عن لملمة الماء من أعالي السقوف، ونزلوا مھرولین إلي الشارع، یقومون بعمل السدود مرة أخري، وأبي لن یستطیع أن يخرم أي سدّ، ھذه المرة.
2- حینما كانت السماء قطعة من ماء عالق، وحینما وجدتُ الأرض لا تبلع الماء؛ أدركتُ أنھ لابد لي من عمل مركبة شراعیة، ولكنني خشیتُ-فقط-علي نفسي من سوء الظن والتأویل المفرط، وأنى لي بالخشب والوقت؛ فأیقنتُ أني عاجز، ولم أبد رغبتي لأخوتي، وأھلي، وسكتُ.