اسدل الليل ستاره فغفت الأعين و ساد الصمت أرجاء المكان ٬ ذاك الذي لم يقطعه سوي صفير الريح الذي أعرب عن ليلة شتاء قاسية البرودة . اما هي فجلست بجوار شقيقتها النائمة تتأمل وجهها الملائكي , و بعينين دامعتين نقلت بصرها نحو السماء ٬ ترقب القمر وسط الغيوم وما إن إندثر معلنا إستسلامه حتي ادركت أنها بداية النهاية .جثت علي الأرض متكورة علي نفسها , تمنت لو انها تستطيع الإختباء خلف أحدهم .
راح قلبها ينبض بقوة و تلاحقت أنفاسها، فها هي وطأة أقدام زائرهن الليلي تدنو من مضجعهن أكثر فأكثر . و وسط ليل حالك السواد بدا امامها حاملا مصباحا في يده و بصوت جهوري راح يوقظهن ساكبا الماء البارد فوق أجسادهن اللاتي لا يسترهن سوي أثوابا بالية مهترئة لا تستر عورة و لا تبعث دفئاً . و ما إن إمتدت يده نحو إحداهن حتي راحت تصرخ مستنجدةً بوالدتها التي قامت بدورها بالتوسل اليه ليرحم صغيرتها و لكنه أبي ٬ فقامت السيدة بدفعه بعيدا عن ابنتها الأمر الذي أثار حنقه فراح يهشم رأسيهما بسلاحه فسقطتا غارقتين في بحر من الدماء.
تعالت صرخات النساء و الفتايات من حولها ، تمنت “حياة” لو أن ذاك المصباح فى يده يسقط فيتهشم فتغيب و أختها عن ناظريه . و أخيرا تنفست الصعداء ، فقد انصرف ” الغول”_ هكذا أسمونه_ ساحبا خلفه فريسته الجديدة و التي لم تستطع “حياة” تمييزها فالمكان مكتظ بالنساء
و الفتايات البائسات لحدٍ حال دون رؤيتها لأختها وسطهن .
هدأ الجميع فراحت تبحث عن أختها و لكنها لم تجدها ٬ تجمدت الدماء في عروقها و ما هي إلا لحظات حتي دخلت أختها بالكاد تجر قدميها و قد خضبت الدماء ثوبها الممزق . أقبلت “حياة” على أختها التى هوت بين ذراعيها ترتجف و قد ارتفعت حرارتها على نحو جعلها تتمتم ببعض الكلمات التى لم تستطع تمييزها و لكنها أبدا لم تخطئ فى تفسير تلك الرائحة التى تحوم حولها ….إنها ” رائحة الموت”.
حينها أدركت ” حياة” أن هذا الجسر بينها و بين الحياة قد أوشك علي الإنهيار.
أشرقت شمس يوم جديد فى تلك البلدة التي تنعم بالديمقراطية و العدالة المزعومتين٬ أمّا تلك الخيام المتراصة علي حدودها فلم تشرق شمسها بعد . فأولئك لا يعرفون سوي ظلمة الليل
و وحشته و صوت السياط و صرخات النساء و رائحة دمائهن.
و ها هو الليل قد أقبل و خطوات أحدهم تقترب من جديد و لكنه في تلك المرة لن يتكبد عناء أيقاظهن …….فهي تنتظره منذ ساعات . ذهبت معه حيث خيمته وسرعان ما انتهي كل شئ ٬ فقدعلا دويّ الرصاص ليهز أرجاء المخيم ٬ أسرع الحراس الي خيمة صديقهم فوجدوه غارقا في دماءه وما إن رأتهم حتي أَذِنَتْ لرصاصتها الأخيرة بالخروج لتستقر في صدرها . علت ابتسامة النصر وجهها و انطلقت معها روحها مستقلة قاطرة الذكريات لتكون محطتها الأولي ذاك المكان الأسوء علي الإطلاق و الذي تجرعت فيه شتي الوان العذاب ٬ فكم تمنت لو إستطاعت إضرام النيران به و تخليص هؤلاء النسوة من الم ينتظرهن كل يوم . امّا محطتها الأخيرة فهي تلك البلدة الخضراء التي شهدت مولدها و أجمل أيام حياتها قبل أن تتحول الي أطلال يكسوها الرماد. توقفت قاطرتها فترجلت ماضية بين أطلال بلدتها الخاوية علي عروشها ترنم ترنيمتها الأخيرة…….”غداً سأعود”.
بقلم المؤلفة هبة عرفة محمد على