سقطتْ دموعه على الأرض.
و شكّلت من التراب ثلاث كويرات صغيرة، سيحسبها عصفور بعد هنيهة فتاتات خبز.
لكنْ.. هذه قصّة أخرى…
قالت: الرجال لا يبكون.
قال: و لا السماء في هذا البلد.
قالت: لا تنتظرني. لن أعود.
و لما بانت في المدى بين النخيل و الزيتون، تذكر ما دار بينهما ليلة عيد ميلاده الثلاثين، و أنه أسرّ لها يومها: ينتابني نداءٌ خفيٌّ من صحراءَ بعيدةٍ أكون فيها أنا أنا.
و أنها قالت له: لديّ حلم قديم في صحراء “مرزوگة”، لكنني لا أتذكّر تفاصيله.
و عندها، أدرك أن ذاك الحلم، كان الوحيد المشترك بينهما.
أشعل سيجارته و جلس على مقعد خشبيّ في نفس الحديقة. كان قد مرّ زمن طويل لم ير فيه صديقا قديما له، لم يكن يزوره إلا حينما تحل به مصيبة. فقام و سار نحو بيته، و عندما طرق بابه قيل له إنّه توفّي منذ يومين، فزاد ألمه و اجتاحه الأسى المرير مضاعفا.
توجه نحو أقصى شمال المدينة شريدا، هائما على وجهه، بدون أية وجهة محددة و دخل كوخا من الطين، فوق تلّة، بدا مهجورا، لما أصابه الإعياء، كي يحتمي فيه من حرارة الشمس. لكنه سرعان ما أدرك أن المكان لم يكن مهجورا. إذ صرخ في وجهه شيخ مسنٌّ جالس على حصيرة. تعرف عليه على الفور. كان يوما ما فقيها بمسجد المدينة الأكبر، لكنه سُرّح من عمله و هجره مريدوه عندما صار غريب الأطوار، و كثر الحديث أنّه أصبح مجنونا.
باح للفقيه بعد أن فرغا من صلاة العشاء:
أخاف ألا تعود.
قال: ألا تثق بها؟
قال لا
قال الفقيه: إذن، لما صاحبتها من البدء؟
قال: لا أثق في النساء على أية حال.
قال: فلمَ بحثت عن الحبّ؟
قال: أخاف أن أُنسى
قال: و من أنت؟
قال: يناديني صبيان المدينة : الرجل الذي لا يعرف نفسه.
فصرخ الفقيه: إذا كان ذلك صحيحا، فاذهب و اعرف من أنت قبل أن تُحِبّ.
نظر خلال مرآة على الجدار و قال: لا.. سوف أبحث عنها.. و غاب خلف ضباب كثيف كان قد نزل الليلة على التلّة.
توجه إلى المحطة الطرقية و اقتنى تذكرة، جلس فوق مقعد شاغر، و انطلقت الحافلة.
و عندما وصل إلى مرزوگة، كان الفجر قد طلع، فسار خلال الصحراء دون توقف. ثم انتظرها ساعة من دون موعد في غيابات الصحراء.
و أتت!!
فوقف أمامها و وجهه الأسمر القاتم يتصبب عرقا، ناظرا بعينيه السوداوين عميقا في عينيها اللوزيتين و الريح تلعب بخصلتين من شعرها الأشقر. و همس لها:
“سوف أتعرّف على نفسي فيكِ”
بقلم المؤلف أنيس عزيز الكوهن