فى قريتنا، كل شئ منظم وموضوع فى مكانه، النهر، الأشجار، البيوت الريفية القديمة، كل جزء يكمّل الآخر لتكتمل اللوحة المبهرة، سرب من طيور الحسون يعزف أعذب ألحانه ويتناقل بين الأغصان مع انفاس الفجر، فيستنشق شذاها عبير الرياحين، ووريقات الشجر التى تلحفت بقطرات الندى، لا أتصور أنه بإمكان أمهر الفنانين أن يجمع هذا المكان المذهل فى لوحة!
كل شئ فى المكان كان هادئاً مثل هدوء الصمت، بل إن للصمت ضجيج وانا لا أذكر أن سمعت ضجيجاً فى هذه الجنة الأرضية، كانت الأشجار أيضا تعيش فى هدوء شأنها شأن أهل القرية، ولم يُفسد هدوء هذه الأشجار سوى أطفال قاموا بقطع أفرعها الصغيرة لصنع طائراتهم الورقية
لاحقا، هبت علي رياح متربة قوية، فاقتلعتنى من خيالاتى، سرعان ما جاء رجال غرباء لم ألحظهم من قبل هنا، وجدتهم يشرعون فى قطع بعض الأشجار الكبيرة، يعاونهم فى ذلك بعض الفلاحين من اهل القرية، قاموا بحمل الأشجار الصريعة على ناقلة كبيرة ثم انطلقوا بعد أن أعطوا الفلاحين شيئاً يبدو أنه مال، بل هو المال فعلاً، فقدت سمعت أحدهم عندما إقتربت منهم يقول: “كان المفروض يدونا مية جنيه كمان”، فرد عليه آخر: “هنعوضها فى المرة الجاية”.
من يومها وقد بات الهدوء شيئاً نادراً، حتى الظلال فقد إختفى معظمها بعد أن غابت معظم الأشجار عن اللوحة، وما تبقى من ظل صار يعانق ظلي الباهت المنسحب بكل تثاقل كلما مررت على أشلاء الأغصان المترامية وبقايا الجذوع التى لم يستطيعوا إجتثاثها من الأرض، تتقيأ الشمس أشعتها الحارة فتلهب الأرض وما عليها، وما من مفر من لهيبها، بعد أن غُيِّبَت الأشجار.
قاتلو الأشجار لم يعرفوا مدى شقائها مع الزمن وكيف صارعته حتى تفتحت أوراقها ونمت أغصانها، ليتهم أدركوا مدى عجزهم عن إقتلاع جذورها، تلك التى تظل متمسكة بأرضها لا تريد الموت، وبينما تمر الأيام ويزداد إرتفاع ما تبقى من أشجار القرية، كان ثمة تمرد يتفجر داخل أفرع وسيقان تلك الأشجار، تلك التى إعتادت على لمس أرجل الطيور الرقيقة، إعتادت على هنات الفراشات الملونة على وريقاتها، ذرات الندى ونسمات الربيع، إعتادت أن تصمد فى مواجهة الهواء الغاشم فى يومٍ عاصف.
ألان تبدو لمن ينظر إليها وكأنها فرّت من اللوحة الجميلة لترسم كائنات جديدة غاضبة ترفض مستقبلها المشئوم الذى ينتظرها، بل الذى ينتظره أهل القرية، باتت اللوحة إذن بلا أشجار تقريبا، فهي تبحث عن واقع جديد تفرضه على بنى البشر، فمنذ ذلك اليوم و الأشجار تقبض على أى طائرة ورقية تطير فى السماء، وأينما ذهبت إلى مكان مفتوح فى القرية ستجد جثث الطائرات الورقية عالقة على أفرع الأشجار الملتفة، تتمنى لو أن لسيقانها أغطية من فولاذ فلا يستطيع البشر قطعها، لكن للأسف لن تتحقق أمنيتها، كما أنه ما من أحد إستطاع أن يلحظ تمردها و رغبتها فى الانعتاق.
باحثة عن ذواتها المبعثرة، لم تستطع ان تلاقى هدوء الماضى الذى ضاع، ولا هى وجدت مستقبل آمن يعفيها من القتل “القطع” بالمناشير القاسية، أذكر أنه بعد عام أو يزيد، رأيت الرجال الغرباء فى قريتنا التى لم تعد هادئة، وقد تكررت رؤيتى لهم فى القرية كثيراً
بقلم المؤلف أحمد مصطفى الغـر