في كل مرة تمر علي دار القابلة في مدخل العمار، تحتك بحائطها المتبقي به آثار دهان بالجير عفا عليه الزمن فلم يُبق منه إلا ذيل سفينة ومقدمة طائرة وحج مبرور وذنب مغفور، وتقترب أكثر من الحائط فتترك أحرف مشنة أعواد الحناء أثراً متصلاً على الحائط.
“وقف …
أي حركة قول علي روحك يا رحمن يا رحيم ”
ولم يتوقف المتحرك عن الحركة!! ، ومع هذا لم يكلفه ذلك حياته، سيعقب المحذر بعبارة معهودة:-
” انت لساك ماشية…
الله يكون في عونهم
أنا عارف مستحملينك إزاي؟؟ ”
كانت الحركة بطيئة، والأرجل الحافية المشققة تضغط الأرض في وهن، والجلباب الأسود المرقوع بتدلي فيمسح خلفها الطريق، وبرقع الحياء الشفاف يلتف حول مؤخرة الرأس والكتفين ويمتد حتى أسفل الخصر، ومشنة أفرع الحناء المشقوقة تعلو حواية صنعت خصيصا لتخفيف حمل المشنة علي الرأس الصغير المستدير الذي لم يكف عن الأخذ والعطاء طيلة الطريق.
– يا خالة فهيمااااااااااااااااااااااااااااا
– عمتك زمزم عايزاك … بسرعة شوية
هي تكره عمتها زمزم كثيرا إنها لن تحتاجها أبدا إلا في حالة احتجاز الكلب لأحد لصوص الخيار. السيناريو معروف جيدا؛ ابن الدهشوري نزل يسرق خيارا، فشم الكلب رائحته، فاحتجزه وظل ينبح تجاهه لا يفترسه ولا يتركه يذهب لحال سبيله، ويظل الوضع معلقا كما هو عليه حتى تذهب إليه وتربت علي ظهره
-خلاص … معلهش … سيب الحرامي … هنوديه للعمدة
فيحن ويزوم ، ثم يتراجع ، والولد مازالت دموع الخديعة في عينيه،
-معلهش يا خالة فهيمة .. .. مش هاعملها تاني
تبصق ناحيته وتكيل عليه اللعنات ، وتتركه بعد شد أذنه بقوة وهي على يقين أنها لن تكون المرة الأخير لممارسة عادة السرقة على طول الزقاق.
الظهيرة مدعاة لأن يترك القرد ابنه في بؤونة الحجر بالقرب من قنطرة أبي الحسن، غير أن الأرجل النحيلة ليست عابئة بالتراب الساخن وبقايا روث البهائم، والأحجار الملقاة في وسط الطريق مالت في سيرها إلي شاطئ الترعة تحتمي بشيء من ظل أشجار الصفصاف، ولم يكن فيضان النيل قد منعه بناء السد العالي بعد.
ارتفعت أصوات الحمير حين شموا ريحها عند مدخل زقاق القصالة، ولم يثر انتباهها حركة كتلة سوداء جرت بجانبها ولم تتعثر في كومة أوراق مشمش جافة قشت لإحماء الأفران، وعندما تعدد مرور الكتل السوداء أحست بالانقباض كيوم مات أبوها الباشا.
استعدت بصدر رحب لاستقبال سباب عمتها زمزم.
حين ستأخذ ما تحمله من فوق رأسها، وتدفعها دفعة لا تتحملها قدماها فتسقط ويتناثر الطين حولها، فتفتعل شيئا من البكاء، وترتكن إلي الحائط حتى تنتهي عمتها زمزم من الغداء وتنصرف لا ترفع بقايا الطعام، ولا تأمرها برفعه، فتقوم تغمس رأسها بالمنديل في حوض الطلمبة
-ربنا يا خدك يا فهيمة … وتستريحي
وتنفض رأسها من الماء المتناثر، وتمد يدها تلتقط الرغيف المتبقي من عمتها زمزم لتأكل مع تساقط قطرات الماء عليه.
قابلنها النساء: الكتل السوداء، وجوه لم ترها من قبل، ولا تعرف درجة قرابتها لعمتها زمزم، تلفتت يمينا ويسارا فلم تجد غير الكلب منكسرة عينه ورأسه منكس.
أنزلت حمولتها علي الأرض أمامه فلم يهتم بها، ورائحة الطعام لا تثيره، وأذناه مرتخيتان إلي الأرض، أقعت بجانبه، زام حين اقتربت يدها منه، بلعت ريقها، ونظرت إلي الوجوه التي لا تعرفها، وصوتها مخنوق بالبكاء سألت: فين عمتي زمزم؟
المؤلف، مختار محمود عبد الوهاب منصور:
مصر- العمار الكبرى- قليوبية
مهندس مدني لا أدري ما الذي أستطيع تقديمه للقصة القصيرة؟
ثاني نادي القصة بالقاهرة 1998م.
ثالث إحسان عبد القدوس 1998م.
رابع دار الأدباء عام 2008م.
أماكن النشر جرائد (المساء- عكاظ السعودية –الزمان)
دوريات (القصة – الثقافة الجديدة)
انترنت