لم أدر أبداً لماذا كلما بدأت فى الكتابة تمتد يدى، فى عبودية مطلقة لوسوسة شيطانية غامضة، إلى الريموت. ما سر رغبتى فى تشغيل التلفزيون المزعج أثناء غوصى فى الأوراق والكلمات؟!! يتمزق تركيزى ما بين مشاغلة الشاشة، ومغازلة السطور. أحياناً تعترض رقبتى تشنجاً، لكنى لم أتعظ. مع الأيام، كَبُر محيط الشاشة. فرحت لأن هذا سيمنح الكادرات، ولاسيما فى الأفلام، فخامة مذهلة. لكنى لُعِنت بفيلم يدور فى الصحراء. هواؤه كان لافحاً، أذابنى عرقاً، وأطار أوراقى، وكاد يطيّرنى شخصياً. ونما توجس مسخى، يهمس فى تكرار مرضى، بأن ثمة ثعباناً صغيراً تسلَّل من بين الرمال لما تحت سجادتى. حاولت إطفاء نارى بالحقيقة القائلة أنه ليست كل الثعابين سامة. اندمجت فى كتابة مقال عن الوحدة، والتى أقاسيها، طيلة العمر، وزادت وطأتها مؤخراً عندما ماتت قطتى المسالمة، منزلقة من بين الأعمدة الرفيعة المتباعدة لسور سلم المنور، والتى تُفلِت فيلاً وليس قطة مسكينة. عندما أغمض عينىّ أرى نفسى فوق جواد جامح فى البرية، مع موسيقى راقصة، مفرقعة البهجة، لبيانو أنا عازفه. لكنى عندما أعد من حلمى أجد الأوراق، والأقلام، والتلفزيون. الجهاز بجوار المكتب يعرض عالم الحيوان. وحيد القرن يرمقنى بنظرة ظاهرها الكسل، وباطنها التوعد. كثيراً ما تعنى النظرات أموراً بلا حصر. لكنى صاحب موهبة فى تمييز هويتها الأصلية. غيّرت القناة، فوجدت وحيد القرن، ينظر لى نفس النظرة، من وراء مذيع يابانى واقف يتحدث عن بشاعة العواصف الثلجية فى بلده. أشحت ببصرى، وأطفأت الصوت، ومارست الكتابة دون إخلاص فعلى. خرج راعى بقر، ورجل يبدو من ملابسه ولغته أنه أحد مسئولينا. جلسا بالكراسى فوق فراشى، وأخذا فى تناول مشروب أخضر لم أعرف ما هو. فار دمى، وكدت أزعق.. كيف يوسخون ملاءتى، ويشوِّهون مرتبتى ؟؟، لكنهما تلاشيا بعد قليل، مع تغييرى للقناة إلى مسلسل عربى، ذى ألف حلقة. صحيح بقى صوتهما قليلاً بعد اختفائهما، لكنه كان إلى زوال. أثناء مراجعتى للمقال، مالت عيناى إلى متابعة فيلم رعب، كان فيه رجل بدين، مترهل الشحوم، ميت الوجه، يمزق الضحايا بسكين أطول منه. نظرته ماثلت، لدرجة التطابق، نظرة وحيد القرن. لم أعبأ، ورجعت للأوراق، وبدأت فى كتابة قصة قصيرة كانت فكرتها فى رأسى منذ الطفولة، ومن وقتها لم أمنح لنفسى الفرصة كى أسطرها. تعالى ضجيج فيلم الرعب، وانطلقت صرخات الألم جارحة الواقعية. دق قلبى دقة خوف أو اثنتين، لكنى تماسكت، وأشعلت رقصاً مثيراً فى رأسى. خرج أناس، أو أشباح، من التلفزيون، والذى صارت شاشته فى عرض الغرفة. كلٌّ حمل أداة فى يده؛ ميكروفوناً، بالونات، دمى، أطباق طعام، قراطيس فشار، ومدفعاً رشاشاً، وانخرطوا جميعاً فى التجول داخل الغرفة، مع موسيقى احتفالية بشعة، جنونية التكرار، فى الخلفية. يبدو أن غرفتى صارت كرنڤالاً. تضايقت فأنا لا أحب هذه الأجواء الصاخبة، واتجهت لسريرى وسط الزحام، محاولاً البحث عن جزء خاوٍ عليه، كى أنام بعمق، بدون أن أنسى تناول حبة بسط العضلات، وكبسولة تسكين الآلام.
بقلم المؤلف أحمد عبد الرحيم