صوت الطلقات المتتالية تدوي كالرعد… الحرارة الحارقة تجتاح كل شيئ.. والرياح تبعثر الرمال.. في مشهد كابوسي في تلك البقعة من سيناء، نقطة حراسة بجنوب الشيخ زويد.. الأكياس الرملية تحوط المبني الصغير كحصن.. في قلب المبني الصغير تسمع صوت اللهاث والأنين المكتوم.. تقترب فتري الجندي الهزيل المكوم ممسكا ببطنه والدماء تغرق سترته ويده وأخذت تقطر علي الملاط المترب.. زميل هزيل آخر متكوم بجواره فاقد الحياة.. ونصف جمجمتة مفقود غارق في بركة اللون الأحمر المرعب.. نظر المصاب برعب وتساؤل للضابط الشاب الذي رقد منبطحا امامه يعصر بكفيه بندقيته الآلية برعب كانه يحلب منها الأمان…انهمرت دفعة اخري من الرصاصات تطايرت لها الشظايا الأسمنتية عليهم كمطر من الجحيم…فهتف الجندي المصاب بصراخ امتزج فيه الألم بالخوف.. فصرخ الضابط الشاب بفحيح مكتوم:
– تماسك ايها الجندي.. هم مجرد جرذين يطلقون النار من فوق التبة ..تماسك ..امسك بندقيتك وتعامل مع الهدف
غلبه القهر والألم فقال بين دموع وشهيق:
– لا استطيع يا سيدي سامحني..سأموت ككلب شوارع دون ثمن..
زحف الضابظ الشاب بسرعة تزامنت مع ثلاثة طلقات انطلقت نحوهم.. وأقترب حتي صارت انفاسه تلفح وجه الجندي ثم جذب تلابيب سترته وهتف وهو يجز علي اسنانه:
– لن تموت يا “سيد”…لن تموت ..انت جندي..أنت بطل والأبطال لا ينهارون.. الألم والدم اختام الرجولة…هيا إزحف للفتحة واطلق النار تجاه الشرق وأنا سأتعامل معهم
نظر له “سيد” في إنهاك ونظر نحو جرحه النازف وهز رأسه بقوة موافقا و الدمع في عينه يذوب ساقطا..تذكر أو هكذ بدا له قبس من حلم.. رأي فيه عودته من الخدمة إلي قريته.. رأي نفسه مع الرفاق يمشون ساعة الغروب بمحاذاة الزراعات المترامية.. رأي وجه اباه القعيد وهو يصفق بحماس في يوم زفافه المنتظر تجلي له في هلوسته وجه حبيبة طفولته التي أنقذ لها قطتها التي سقطت في الترعة الصغيرة وتذكر كلماتها …
“أنت بطل يا ولد يا سيد”
عاد للألم ودوي الرصاصات…راقب الضابط الذي زحف نحو الفتحة..وهو يشير له بالتعامل..فمسح دمعة اخيرة ..ومد يده في جيبه اخرج حافظته الجلدية المهترئة..ووضعها بين أسنانه ..وعض بقوة وهو يقفز ناهضا وهو يرفع البندقية بإنهاك نحو الهدف..
علي التبه..الغير بعيدة رقد “رمضان” علي بطنه..وبجواره أثنين من زملاء فرقته قبعو يحضرون القاذفة تهيئة لتفجير الكتلة الأسمنتية..اللثام يخنق انفاسه ..الحرارة والخوف
– هيا يا رمضان لا تدعهم يفرون..المزيد..المزيد يا بطل..إمطرهم برصاص الحق هؤلاء الخونة..الله أكبر..
إخترقت الكلمات أذن “رمضان” بقوة..بدت فاقدة المعني..كيف تكون في أعلي حالات إستعدادك ..مملوء بالقناعة بما تفعله..وفجاة تتهاوي عزيمتك ولا تقوي علي ضغط الزناد مجددا وفي قرار عقله لم تكن هناك صورة سوي شقيقه الصغير الميت في فض إعتصام القوي الاسلامية وصراع الجيش مع السلطة الأسلامية.. هو لم يعي كيف غضب الناس من السلطة.. هو لم يقتنع ان الشعب اختار وأراد القوة.. هو فقط يري دماء شقيقه.. لم يري الحوريات في إنتظاره في الجنة.. لم يري طريق الحق المقدس الملطخ بالدماء.. هو فقط يمطرهم بالموت كما امطرو شقيقه المراهق.. ولكن ما سمعه من صرخ وتوسل آت من ناحية الكشك الحجري منذ لحظات.. شيئا لم يكن يعرفه ولم يزده إلا رعبا.. شئ لم يكن يبدو من قبل كحلم إنتقام مقدس..
تمت
بقلم المؤلف جمال النشار