مددت خطواتي الخضراء عبر الأزقة المزدحمة بظلال آخر الفجر وبقايا نفحات البخور التي تحمل رائحة من عبق التاريخ، أتسلق الدرج الحجري الذي يصعد نحو الأعلى ببطئ كسلم يكاد ينتهي إلى السماء، الحجارة بدت ملساء على كثر ما عبرها البشر. أتوقف ملياً وكأنها المرة الأولى التي اكتشف فيها ذاك السحر والخطوط الجصية البيضاء النائمة بإتقان في جلباب الأبنية الحجرية في تقاطعات مع الألوان التي تبدو كهالة من النجوم أعلى النوافذ الخشبية، لتضفي على ذلك الزخم مسلك لشوق الاكتشاف. أسفل تلك القمرية تطل أنثى بهية تشبهها، واسعة العينين، مليئة الخد، تنفض ضفيرتيها في رائحة الصباح وتبحث عن أحلام هاربة في زوايا وأزقة المدينة.. لن تدعني وحدي كالعادة، سترافقني وتطل من خلف النوافذ رغم تعرجاتي التصاعدية في طي تلك السلالم نحو الأعلى تارة وأخرى في خطوط قليلة الاستقامة. ضحكات الأطفال وأدعية الصباح التي يلقيها مسنو ذلك الحي، وعطر الأمومة المحتضن لجوف المساحة التاريخية يعطي دفعة إضافية لاستلهام اللوحة مرات ومرات، متناسياً قدمي التي باتت تعرف طريقها نحو مقهى البن اليمني الشعبي، وقد بلغت نم الارتفاع في صدر المدينة قرابة التسع طوابق أو أكثر. على كرسي خشبي وكأنها مسلوخة من النسيج العمراني حولها، أتناول قهوة الصبح، وأرتشف الانتظار رويداً رويداً. أنتظر المدينة كاملة ان تصحو وتفتح عيونها الغافية أعلى النوافذ، يبدو كذلك، غير أنني أنتظر نسخة أخرى من الفتنة والجمال… تلك الفتاة لن تخطئ موعدي مع ضفيرتيها اللتان تنثرهما كعصفورين ساحرين وتجففهما من لا شيء، أو ربما من شيء لا أفهمه.. المهم أنها تتعمدني وكأنها تلقيهما في مرمى حواسي وتنتشلني من باحة المقهى، تدفع الكرسي الخشبي بطرف ضفيرتيها وتجذبني في جولة لأرى المدينة من أعلى، لؤلؤة متراصة من المباني المخللة بالأحجار التي تحوطها خطوط بيضاء ناصعة، ونوافذ وقمريات نصف دائرية ملونة باتقان يكفي لإسقاطي في جاذبيتها والبحث خلفها عن الفتاة وعن الضفيرة التي كنت أتعلق في أطرافها وكأنني رياضي محترف في لعبة البانجي، إلا أنني وقبيل السقوط، فقدت توازني تماماً، أتحسس المشهد الذي أمامي: صنعاء القديمة التي كنت أتجول فيها .. الفتاة.. المقهى .. أين أنا… ماذا حل فيك يا صنعاء، من قضم في تاريخك ذلك الركن العمراني الذي أبدأ منه مشواراتي الصباحية لأعيش لحظات مع التاريخ، غير أني اللحظة حائراً أبكي المدينة والجزء المدمر مها، القمريات التي اختلطت بالتراب ورائحة الصراخ والمـــوت في مكان يأبى إلا أن يـــكون!
بقلم المؤلف أنور محمد السراجي