انتهى الحفل بالنادي الثقافي بعد تكريم عدد من المتقاعدين من رجال التعليم بمدينة أبركان، حمل معه شهادة شكر واعتراف لمسيرة طويلة في التدريس، ومصحفا عنوان هويته ومعتقده. ركب سيارته واتجه نحو مدينة تافوغالت التي لم تفارق مخيلته وإحساساته رغم التدافع اليومي والمتواصل لانشغالات الحياة. أحس بزهو على طول المنعرجات والمنحدرات وهو يسرق لحظات متعة من الطبيعة الخلابة لجبال بني يزناسن. ركن سيارته على بعد أمتار من قبر جده، وتقدم في هيبة وشغف وهو يردد:
السلام عليكم أهل الدار الأخرى أنتم السابقون ونحن اللاحقون، اللهم ارحمهم واغفر لهم.
جثم على ركبتيه قرب القبر. قرأ ما تيسر من أيات الله الكريمة. رفع كفيه بالدعاء.
وفي المساء، جلس بمكتبه. أخرج ورقة وقلما. فك أغلال مخيلته وكتب:
– كم كانت صلاتك للوطن قدسية، وكم كانت نقاوة سريرتك متعلقة بالرب والطريقة، وكم كانت تراتيلك، وهجرتك، وطيبوبتك تعطر كل الأمكنة لتترك بصماتها التاريخية في النفوس والأجيال رغم ضنك العيش وخفافيش الظلام. ترقد في الثرى بعدما تركت وصيتك تنتظر الوفاء والإنجاز وأنت تراهن على عروق غرستها، داعيا لها بالنبات والثبات في صلواتك صبحا ومساء.
نم قرير العين، فلا زالت كلماتك ترنّ في أﺫني وأنت تحكي عن الحركة الوطنية، والاجتماعات الليلية في الجبال والدور بعيدا عن عيون الاستعمار الفرنسي، وعن الشيخ والمقدم والقايد. ولا زالت أسماء الأسلحة التي كانت تستعمل في أيامك لمقاومة الاستعمار مخزونة في الذاكرة بفعل حكيك الشيق، فمن ينسى”بوحبة”، و”بوشفر” وغيرها ذات الصنع الفرنسي والانجليزي.
ولا زال سردك الشفهي للتاريخ يشنف سمعي عن الملكين ومعركة أنكاد، وعن الجلد الذي تعرض له أبناء الجبال يوم علموا بالاجتماعات التي كنت تشارك فيها بجبال تافوغالت حيث قبرك يحكي في صمت تعلقك بالبلد والملوك العلويين، وعن هجرة أبيك، وثورة تافيلالت، وعن الطريقة الدرقاوية التي اعتنقتها وخدمتها بكل إخلاص، وعن فتوى تحريم شرب القهوة وجر البشر على أشواك السدرة، وعن، وعن، وعن … فرحمة عليك يوم ولدت ويوم لقيت ريك، فنم محفوفا برحمة الله وسط الجبال التي عشقتها طول حياتك، وقاومت فيها الظلم وضنك العيش في قناعة المتصـوفين، وعزّ المكدين المجدين. واعلم أن ذكراك ستبقى مسجلة عبر التاريخ الطويل العريض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها رغم ظروف زمنك القاسي. فلتهنأ في مثواك، فما غرست نبت بعضه، وما تمنيت تحقق بعضه واستمر زرعه، ولله الأمر من قبل ومن بعد، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
المؤلف، عبد الحميد حادوش:
مغربي من مدينة بركان
مدير سابق لإعدادية، متقاعد
من مواليد: 1952
من كتبه المطبوعة: بالي- بالي (ترجمة لحكاية إِفريقية) (1924) من الفرنسية. نزهة الخلال ومقامات الحريري ج1
أوراق وأجناس
الكتب الالكترونية بمجلة أنهار الأدبية: نزهة الخلال ومقامات الحريري ج2
قراءة في كتاب طبقات فحول الشعراء (المقاييس النقدية)