بسم الله الرحمن الرحيم
خرجَ من المخبزِ حاملًا في يده كيس خُبزٍ، بيته بعيد إلى حدٍّ ما، لم يبقَ في جيبه سوى دينارٍ، كان بإمكانه أن يوقِفَ سيّارة أجرة أو (سرفيسًا) من السرافيس التي يعجّ بها أحد الأحياء المكتظّة في شرقيّ العاصمة الأردنية عمّان، فينقد سائقه ذلك الدينار، ويستريح من عناء المشي؛ وكأنّ الشّرْق دائمًا فيه سمة الانتكاس والارتكاس في كلّ شيْء.
لكنّ إغواء الشّمس الدافئة بعدَ أيّام من الصقيع والبرد جعله ينتعل الأرض ويمشي، مرّ ببيته القديم الذي كان أحدَ أفراد أسرته المكوّنة من أربعة عشر فرْدًا. جالت بخاطره صُوَرٌ شاحبة لذكرياتٍ عفّى عليها الزمان، كأنها بقايا آثارٍ لسُحُبٍ خلّفها مرور طائرة في جوّ السماء!، يتذكّر تجمّعَ أسرته حول وجبة الغداء بعدَ كلّ صلاة جمعة، كانت الجمعة تجمعهم، ثمّ بعد ذلك يتفرّقون، كلٌّ إلى همومه!
يتابع سيره، وأشعّة الشّمس تداعب ظهره، كأنّها تدلّكه، فيشعر بالانتشاء.
هنا، بيتُ العمّ حمدان (أبو حسن) القديمُ، كان بيتًا زاخرًا بالقوّة والعطاء والبأس، كان العمّ حمدان فيما خلا من السنين رَجُلًا يُعْتدُّ به، صاحبَ كلمة مسموعة، وجيهًا في أسرته وأهل بيته، ولكنّ الأشياء لا تثبت على حالها، أصيب بمرضٍ عُضالٍ أقعده طريح فراشه ووحدته، وله ابنٌ في ريعان الشباب، قضى دون أن يشكو من علّة، وابنٌ آخرُ يرقد في أحد مستشفيات مصر يعاني من قلبه الذي آلمه وآلَم مَنْ عرفه.
اثّاقلتْ قدماه وهو يتابع سيره، في حين أنّ فِكْرَه توقّف عند بيت العمّ حمدان، كيف لإنسان قويّ جبّار أن يتحوّل إلى إنسانٍ ضعيف واهنٍ لا يستطيع أن يتحرّك إلا بمساعدة؟
ولكنّ الحياة تمضي لا تلوي على شيْء.
دخل زقاقًا مظلمًا حجب عنه أشعّة الشمس المنعشة، بيوت متهالكة، وروائح كريهة، وقُمامات متناثرة. كاد أن يستفرغ.
استوقفته طفلةٌ صغيرة، سألته بحزنٍ ظاهر:
-عمّو ما شفت بطريئك (بطريقك) 35 قرش؟
– لا والله يا عمو. وين ضيّعتيهن؟
– هون عمّو، كنت بركض، وضيّعت مصروفي ومصروف إخواني.
أشفق عليها. أراد أن يعوّض ما ضاع منها. مدّ يده إلى جيبه، وأخرج الدينار منه، وأعطاها إيّاه، وتابع سيره، توقّف فجأة، واستدار ناحية الطفلة التي رسمت ابتسامة عريضة على وجهها، بادلها الابتسامة، شعر بنشوة، وبفرحةٍ غامرة تجتاح كيانه. تابع سيره، صعد الدرجات، واستقبلته الشمس التي حجبتها البنايات مرّة أخرى.
بقلم المؤلف محمد حمدان الرقب