انحنت لتودعه الوداع الأخير، طبعت على محياه النضر قبلة اللقاء الأخير، كانت تجدل جديلة الزمن وتنثر العطر فواحا حول قارب حبهما، لكنه القدر من جنى عليها لتمضي وحدها منتصف الطريق إلى حيث تعتليه كتل صخرية كشخوص سوداء، شاهدة على كنوز أسرَّ السابقون فيها سيّر حياتهم، وقد كانوا نزلاء في المدينة الصخرية حيث تتربع المدرجات كسلاسل جبلية تفضي على المدينة الغارقة تحت انهيار الجبال. ترن كلماته في أذنها وهي ذابلة ترتوي من أنفاسه شيفرة النضال من أجل الوجود، هو قادر على أن يبقى صامتا طيلة أزمان بعد هذي فقد وريَّ التراب، وهي ساهدة تتم مسيرته باحثا عن الرأس الذهبي، وهي تتلو الخريطة البيزنطية كما تتلو تراجم البلدان، تذكر حينما تعثرت به وهو يتصفح كتب العالم القديم حيث ربضت بيزنطة على أرض المشرق، حيث تعبد الشمس. كان يسير بسبابته وراء الرموز وهي مفاتيح لكنوز الشرق حيث الجسر البيزنطي، والمقابر والدفائن والملك وحاشيته، حيث تربض الكنوز تحت القرية الصغيرة، هنا نعرج إلى سماء فضفاضة من التاريخ البعيد آلافا من السنين، وسرت وإياه فوق جناح الطير وقد وقفا على رموز البسيطة كلها، هنا في الشلالة نعم هنا تحت هذي الأشجار تسكن المدينة الغارقة، ومضت وإياه سابلة يزيحون اللطام عن مقتنيات العالم القديم، سارا معا على الجبل الأبيض وقد أشرف على الوادي العظيم والنهر يسيل برقراق ماءه المائلة صفحته لزرقة صافية كصفاء سماء المكان، “هنا لنحفر” تمتم بسكينة الملائكة، وما كادا أن يحلا لغز اللوحة الجدارية حتى انهارت أمامهما صفوف للقبور، وقد كان يوما زيتها على الجنبين مضيئا لينعم هؤلاء النائمون في طمأنينتهم بروح القبر، نبست برجفة في صوتها:” كم طوال هم.”
لم يدريا أن أصابع اللصوص كانت تقلب صفحات اكتشافاتهم، فدخلوا عليهما دخلة القاتل على الميت أصابوه بجرح في أسفل بطنه، جعل دمه يسيل وهي تلفه بجسدها، وسلبوا القبور كجراد منتشر، وهما يقلبان سرقة هؤلاء سرقة الحاضر للماضي، لكزاهما ليخرجا وأخذا يجران الكنوز الواحد تلو الآخر عند الكنيسة القديمة كان المعبد، وكان أسفل الحفرة المهجورة أفعى تحرس صيدلية الطبيب “اخيليوس البيزنطي” وهناك معصرة العنب وتلك قوارير النبيذ، وهنا الخزف المرصع بفسيفساء للجميلة عارية تلف جسدها بحمامة من وراء الشمس، هنا أصابع الملكة محفورة في الصخر، وهنا الأعمدة وكذا سبيل آخر للحوريات ولكنه الرأس الذهبي هو الضالة، تلكم الإشارات بقيت واحدة: عندما تتعامد أشعة الشمس على العامود الصخري الخامس فتنكسر لتضيء أرضا تحتها عُمدَ الرأس الذهبي، وكانت العلامة وسقطت أشعة الشمس الذهبية لتتكالب كلابهم على الصيد الثمين، ودارت الأعين في محاجرها لتربض على الرأس الذهبي تتصايح قلوبهم وقلبه ينزف، تبتهل عيونهم وتنوس روح عينه، ذبل وطوى صفحته وشوقه لُيدفن بدلا من الرأس الذهبي، ولتفرض لنفسها فريضة أن تتوه في الأرض حيث تعيش مع أشباح الماضي بدلا من وحوش الحاضر، كله دونته في صفحات المدينة الغارقة تحت أشجار الزيتون في الشلالة في الأردن لتدونها كما حفظها اخيليوس من قبل الآلاف السنين.
المؤلفة:
رولا حسينات…كاتبة أردنية…
وليدة الكلمة تبحر في عالم فطري، يقتبس نوره من الشمس… وتحلق في سماء ملؤها أجنحة حرة..
يحملها الهواء لتناطح مناكب السماء..
البذور أصل الثمرة وأصل الخليقة، والأمواه الساكنة بنات الأرض تسقي بذورها، وأنا كذلك بنت الأرض معشقة بسنابل القمح والحنطة وريح العشب الأخضر والمروج الذهبية..
لفحة الشمس تذيبني كحيلة مغمسة بالخروب والقيصوم والشيح والزعفران…
كتبت للأرض وللمرأة..