عددهم تسع عشرة طفلا، تحت ضوء الشموع اصطفوا جلوسا على مقاعد الكنيسة آخذين في التهام الحساء غير آبهين لنصائح الأب جون بول بالحرص على تغذية أجسادهم النحيلة لحمايتها من مرض السل المنتشر. عندما تيقنَ أن كلامه لا يتعدى آذانهم انسحب الأب نحو تمثال العذراء وجثا على ركبتيه في مواجهتها داعيا ألا يعود فادي إليهم حتى لا يضطر إلى طرده، ومتمتما بكلمات لا يسمعها الأطفال المنشغلون بالعشاء وبحديثٍ يتناقلونه حول الأوضاع خارج أسوار الكنيسة، أسفل الربوة التي تعتليها، في الجزائر العاصمة وباقي المدن، حيث قضت المجاعة والأوبئة على ثلثي الشعب في ظرف ست سنوات تاركة البلاد خالية من الأطفال والمسنين كما مات الكثيرون بنار الحرب التي اندلعت من أجل البقاء على قيد المجاعة. نفاذُ النفط من جوف الصحراء جاء قاصما لظهر الاقتصاد الهزيل المتداعي تداعي أسعار النفط.
صارت هذه البلاد منطقة محرمة إلى أن تتوقف الحرب ويتم القضاء على الأوبئة المنتشرة.
نبوءة الأب جون بول كانت صحيحة حين قام قبل عامين بعزل عشرين من أطفال المدينة داخل كنيسة السيدة الإفريقية لحمايتهم من عدوى مرض السل هو الذي كان يعمل على الكشف عليه في المستوصف المتنقل للمدينة، كلما صادف طفلا سليما من العدوى سأله إن كان يملك مأوى إلى أن وصل عددهم إلى عشرين طفلا بلا مأوى ليُكونوا أسرة جديدة تتراوح أعمار أفرادها بين السابعة والخامسة عشر.
ضحكات الأطفال أخرجت الأب من لحظات خشوعه وقد تحلّقوا حول جلال، أكبرهم سنا، ككل ليلة، على وقع المطر ينصتون بأعين حالمة لحكايات تعود بهم إلى أزمنة غابرة وعوالم لم توجد، على الأقل في عقولهم محدودة الإدراك، مكوثهم الدائم في هذا المكان جعلهم يلغون من رؤوسهم كل ما يتعلق بالخارج.
جلس الأب يتأمل الفرح المضطرب الذي علا وجوههم والشكُ يعتصر قلبه حول جدوى ما يقوم به من الاعتناء بهم وتعليمهم وتحضيرهم للخروج إلى عالم تتداعى ملامحه ليتحول إلى مسخ ينفر منه الناظرون، تساؤله حول صحة ما يقوم به لا يفارقه، ألم يكن من الأرحمُ بهم أن يتركهم كأقرانهم يغادرون هذه الحياة.
قطع تفكيره حركة ميزها عن صوت المطر المتهاطل في الخارج، قفز من مكانه ليطفئ الشموع في الوقت الذي اختبأ فيه الأطفال أسفل المقاعد موجهين أعينهم وبنادقهم نحو الباب الخشبي الذي سرعان ما انكسر بشبح رجلين يُبدي البرق رسما لجثتيهما وهما يجرّان طفلا تيقن الجميع أنه فادي الغائب منذ شهور بعد أزمة نفسية اختفى على إثرها ليعود بوجه متورّم من اللكمات.
تقدم الرجلان نحو القاعة لا يهديهما إلى الطريق سوى البرق يضيء تمثال مارغريت بيرغر والمسيح المصلوب أمامها وصدى صوتهما يتسلّق الجدران وتماثيل العذراء والقديس أوغستين: ” أخرجوا .. نعلم أنكم هنا، لا نريد أن نؤذيكم، نريد فقط أن نحرركم من هذا السجن … أيها الأب لقد وصلنا إلى نهاية ما تقوم به، ليس لأحد السلطة هنا بعد الآن … وحده الحزب الجامع من يضع القوانين ” خرج الأب من وراء البلاط المأتمي الأزرق ليشهر الرجلان مسدساتهم في وجهه فخرجت نحوهم من بين المقاعد تسع عشرة بندقية، بهدوء أجابهم : ” هؤلاء أبنائي، كبروا هنا وتعلموا هنا، ماذا سيجدون في الخارج غير أمثالكم ” قبل أن ينهي الأب كلامه كانت تسع عشرة رصاصة قد توزعت على صدور الرجلين ورأس فادي ملطخة جدران الكنيسة ومعها الحجر المنقوش بـ ” يا سيدة افريقية تضرعي لأجلنا ولأجل المسلمين ”
بقلم المؤلف مصطفى بوالطين