الرثاء
الحادث، نعم. لقد انزلقت. مع الضوء. ارتطم رأسي بالأرض وتفتح أمامي طيف كهرومغناطيسي جديد بالكامل. قابلت جنية أخبرتني بأننا لسنا سوى انعكاسات لا إرادية لهم، أغبياء لمصلحتنا، لأننا لم نكن مؤتمنين على اتخاذ قراراتنا. فالخوف من ضياع المعنى لتحقيق الترابط لا يعوض. مالم يأت الترابط على شكل حورية تهبط من السماء وتحمل الوعد بأن كل الوجود يمكن قراءته من على شفتيها.
لقد كانت جوديث تعيش فعليا في عالم مواز لم يكن بوسعي معرفة أين يقع. قالت: “أليس من الجميل أن نمشي يدا بيد؟” تغير لوني على الفور لأنه لم يكن ضمن مخططاتي يوما التقرب منها أو التقليل من إحترامها كما أن يدانا على الأغلب لم تتلامسا ولو مرة. تبسمت ابتسامة عريضة لكأنما كانت تتسلى بإرباكي.
وبعد ذلك أمسكت بيدي وقالت: “لنتظاهر بأنني سلة التسوق الخاصة بك”. لم أفهم لعبتها. ليس الأمر أنني لا أحمل سلة للتسوق أبدا ولكن فكرة حمل سلة ثرثارة حد التخريب من حيث أتى أخافتني. جعلني ذلك الممر الغامض الذي رسمته من العدم أقف عاجزا تماما أمام كلماتها. لم يكن بوسعي الإنعتاق من المتاهة التي جسدتها رغم أنني كنت على يقين بأنها لن تكون أبدا تلك الزوجة القادرة على الوقوف بجانبي في الشدة قبل الرخاء شأنها شأن بقية النساء.
ولم أفلح بحال من الأحوال بأن أخرجها من رأسي. وكان هذا ما حيرني أكثر شيء. مالذي اقترفته ليكون عقابي أن أهيم بحب امرأة أعرف تماما أنها لا تتناسب البتة مع مفهومي للمرأة التي قد يرغب المرء بالوقوع في حبها؟ هل يريد الله معاقبتي؟ هل كانت تلك هي طريقة الله ليجعلني أثبت التزامي بتقمص معطف كبح جماح الذات بتركها تمضي في حال سبيلها؟ لماذا لم تعتريها هي الأخرى الرغبة بالتدثر بذات المعطف؟
ترى هل كانت فتاة حقيقية مخلوقة من لحم ودم أم أنها مجرد طيف شيطاني مغر؟ هل تراها ستنزف إذا ما جرحتها أم هل ستبكي إذا ما أهنتها وهل ستثيرني لو كانت ما يجب أن تكون عليه أو لو أنها كانت فقط ما أرادها الله والناس لتكون عليه فتكون هي ذاتها المميزة المتوقعة؟ والأهم من ذلك ماهي الخطورة الكامنة في الإمساك بيدها الخفية والسماح لها بأن ترشدني لعالمها القابع في الطرف البعيد لزقاق منزو مجهول.
أحسست كما لو أن رأسي سينفجر. وانطلقت جميع المنبهات واقترنت صورتها العارية بشكل صارخ والتي تهتز في دماغي براية حمراء متوهجة: خطيئة وعار ومدعاة للخيانة؛ خياتنها لي إذا تركتها أخيرا على الرف العقلاني المتناسب الذي شكل إطار الواقع الذي أعيش فيه؛ وخيانتي لكل شيء حولي، لكل شيء لطالما عرفت بأنه حقيقي إذا منحتها وحدها مطلق الحرية لتصبح جزءا من عالمي المحسوس الذي لا يتسع بحال لوجودها المتقطع الذي لا ينتمي لهذا الحيز أثناء محاولتي دمجها في بيئتي.
ولكن سامحني يا رب فقد بدت كما لو أنها الشيطان بذاته. فهي تجيب على الأسئلة قبل أن أطرحها كما لو أنها اكتسبت قدرة سحرية ليس فقط للتنبؤ بما سيقال ولكن أيضا لتجنبه من خلال تركه ليرقد بصمت. فكانت أحيانا تختار أن تقول ما لا يمكن أن تعنيه وكأنه خيار واقعي فهي تعرف يقينا بأنه ليس صحيحا فيبدو أن جل ما يهمها لم يكن فك خيوط لغز الخليقة بما أوتينا من الحكمة. شعرت بأنها مخولة بإعادة تسمية غاية وجودها بأكملها. تركت العقدة على حالها لتكون مبهمة كما كانت على الدوام ولعقت حوافها وعرضتها وغيرت شكلها حتى توصلت للشكل الذي يلائمها أكثر؛ قصتها الجميلة التي ترويها بنفسها تلك الحكاية بل تلك الكذبة؛ ذلك الكائن الذي يختبيء دونما تلميح على وجوده في ظل ما بقي ليقال عند وصف الحقيقة بدقة، تلك الحقيقة التي يجب أن تحكمنا. تكمن المشكلة في أن حكايتها كانت سما حلو المذاق على مسامعي.
لقد كانت تلك حكاية عن ولد عاش في مدينة كبيرة. لطالما أخذته أمه إلى ساحة اللعب ذاتها كل جمعة. كانت ساحة اللعب تلك أنيقة وتكثر فيها المنحوتات الجذابة ويوجد في منتصفها لعبة تزحلق مغلقة ومغلفة فبقيت عصية على مرور الزمن فلم يكن هنالك سبيل لإصلاحها أبدا.
لم يكن بمقدور أحد أن يعرف ولكن الولد كان يحمل داخله نسخة صغيرة مطابقة تماما للعبة التزحلق تلك وفي أحد الأيام استغلت اللعبة الصغيرة اللحظة التي كانت فيها والدة الصبي تنظر بعيدا لتعود هي بدورها إلى والدتها ولتترك الصبي يتزحلق على سطحها ونزولا من خلال حنجرتها. تزحلق وتزحلق وعندما وصل أخير إلى الأسفل لم تكن ساحة اللعب المألوفة موجودة في أي مكان. لقد التهمتها صحراء ملتهبة الأفق.
كان الولد لا زال يسمع رجع أصوات الأولاد الآخرين وهم يلعبون ولكن لم يكن أحد هناك سوى الرمال القاسية اللاهبة والتي كانت تغطيه بالكامل وكأنها تحاول محوه أيضا عن وجه الأرض الذي بهتت معالمه أصلا. ما كان منه إلا أن صرخ وتشبث بالرمال من حوله كما لو كانت حبلا يتجنب من خلاله التلاشي في الهواء الهزيل والشمس والمزيد من الرمل. الحمدلله فقد نجحت والدته في إيقاظه بعد أن هزته عدة مرات وأعادته إلى حضنها.
كان منتقعا بالعرق. فقد كان على شفا الانصهار بحيث لم يجرؤ على النظر إلى داخله مجددا. تركت جميع ألعاب التزحلق التي كانت تخفق داخل صدور البنين والبنات الآخرين وداخل كل ما أحاط به من أشياء أماكنها التي سكنتها سابقا عائدة إلى الصحراء. وعندها قام الولد بدوره بترسيم حدود بارزة المعالم حول كل من وما تحرر من لعبته لئلا يخسرهم مجددا لصالح الصحراء. لتنعم كل من ألعاب التزحلق والأشخاص والأشياء التي لطالما استوطنتها هذه الألعاب بالتعفن كل مع عائلته. وكبر الولد بعد ذلك في مظهره ولكنه ظل بداخله ذلك الولد الصغير متسمرا عند البقعة ذاتها حيث كانت لعبة التزحلق. وفجأة يلتقي بها فتراه ذلك الرجل الذي لم يستطع التخلص من الطفل الذي يعيش بداخله والذي لم يتقن يوما لعبة الغميصة.
“هيا بنا، دعنا نلعب فنحن آلهة بوسعها أن تخلق بواسطة الخيال وبوسعنا تخيل مالا يخطر على قلب بشر. لنتخيل أننا أطفال وأن مستقبلنا المبهم حد الإثارة يمتد أمامنا. لنتخيل أنه يمكننا تخط كل الحدود ووضع حبنا المستحيل في غياهب الواقع ليتسنى لنا التستر عليه ليكون خفيا دون أن يتأذى إذا فشلنا في تربيته على غرار خلقنا نحن أنفسنا ودون الشعور بذنب تحد الآلهة في محاولتنا للمضي قدما بحبنا غير التقليدي. لنتظاهر بأن لدينا متعة الخيار، الخيار الفعلي، خيار أن نكون مختلفين ولو كنا حتى سلة تسوق.” هي اقترحت وأنا تنازعتني ملايين التناقضات.
ببطئ وثبات أخذت تحدثني لتستدرجني إلى عالمها الرمزي الحالم الذي يتناقض مع فهمي للواقع من حولي وتركتها تهدهدني لأنام حتى بدأت أشعر برغبة بالحديث عن أحلامي، ذلك الحلم الذي رأيته وأنا مستيقظ والحلم الذي أوقفته لأصحو لحلم آخر، والآن، على الأقل، لم أعد وحيدا بعد هذه اللحظة، فها هي على الأقل بجواري حاليا وتكملني.
حتى أننا أوجدنا لغتنا السرية التي تخصنا لتعبر عما نعنيه، حتى لو لم تكن روضت على يد الطريقة الحالية لتقول ما ينبغي أن يقال دون الحاجة للإلتزام بالتراكيب الإلهية الخالدة والتي تقف بالتالي في طريقنا لإعادة اختراع أنفسنا والتعبير عن شيء خلاف ما سمح لنا بالتعبير عنه.
هي كان لديها ماض كتلك النسوة اللآئي رافقن إراقة الدماء بتوجيه اللكمات خلال فترة البلوغ. كان اسمه يعقوب وبدا غير مؤذ. لقد كان هو الشخص الذي جعل كل شيء ممكنا في البداية. فقد كنا ثلاثة رفاق من ورشة الرسم. حتى أننا كنا نذهب سويا للسينما. لم يتقرب منها أبدا كما فعلت أنا. أعتقد حتى أنه كان أكثر خوفا من لسانها السليط مني. ولكنني كنت أعرف بأنه يحبها. لربما لو كان أقل تحضرا لكان قد لاحظ ساحة اللعب الوحشية في الخارج.
إلى يعقوب، من أجل أن يجد هو أيضا الفتاة الملائمة له، الذي يقلب العالم رأسا على عقب.