تُلَوِّحُ لِي ذِكْرِيَاتٌ، وَتَمْشِي إِلَيَّ الطَّرِيقُ الْحَنُونَةُ مَحْفُوفَةً بِالشَّجَرْ
جِبَالٌ تُمَشِّطُهَا الشَّمْسُ.. وَالْمَاءُ يَنْسَلُّ كَالشِّعْرِ مِنْ قَلْبِ صَبٍّ غَزِيرِ الْهَوَى
حِينَ يَنْسَلُّ مِنْ صَخْرَةٍ هَا هُنَاكَ
نَسِيمٌ يُدَاعِبُ وَجْهَ الْمَتَاعِبِ
طَيْفُ حَنِينٍ
هُدُوءٌ مِنَ الثَّلْجِ أَصْفَى
وَأَفْرَاحُ لَوْزٍ بَهِيِّ الزَّهَرْ
وَ”تَابْلَاطُ” تَفْتَحُ أَذْرُعَهَا لِلْأَحِبَّةِ حِينَ يَجِيئُونَ مِثْلَ الطُّيُورِ الَّتِي طَارَدَتْهَا الْمَوَاسِمُ فَاسْتَسْلَمَتْ لِرَحِيلٍ وَسِيعِ الْمَدَى.. ثُمَّ مَزَّقَتِ الثَّوْبَ –ثَوْبَ الْمَسَافَاتِ-
عِطْرُ الْمَوَاعِيدِ أَزْكَى
وَذَاكِرَةُ الْحُبِّ أَقْوَى
وَصَدْرُ الْقَصِيدَةِ مُتَّسِعٌ لِلتَّفَاصِيلِ مِثْلَ الْقَدَرْ
بِبَابِكِ “تَابْلَاطُ” تَنْمُو بَرَاعِمُ شَوْقٍ شَفِيفٍ تُزَخْرِفُ حَافَاتِهِ
وَتُزَخْرِفُ قُفْلًا يُعَاتِبُهُ الْقَلْبُ حِينًا
وَحِينًا تُجَادِلُهُ الْخُطُوَاتُ الْعَنِيدَةُ
لَابُدَّ لِلْبَابِ يَا وَطَنِي الْبِكْرَ أَنْ يَتَحَرَّكَ إِذْ تَتَحَرَّكُ هَذِي الْخُطَى
يَتَحَرَّكَ كَيْ أَمْنَحَ الْعُمْرَ -حِينَ يَحُطُّ عَلَى كَتِفِ الْحُلُمِ الْمُشْتَهَى بَعْدَمَا طَارَ مُتَّقِدًا فِي سَمَاوَاتِ صَبْرٍ مَدِيدِ التَّبَارِيحِ- قَمْحَ الْإِيَابِ
وَهَا أَنَذَا أَمْنَحُ الْعُمْرَ قَمْحَ الْإِيَابِ وَمَاءَ اللِّقَاءِ الزُّلَالِ
وَأَمْشِي عَلَى تُرْبَةٍ رَخْوَةٍ بَعْدَمَا امْتَدَّ فِي الْعُمْرِ جُرْحُ الْغِيَابِ
أُصَوِّبُ نَظْرَةَ خَوْفٍ طَفِيفٍ وَوُدٍّ كَثِيفٍ إِلَى أَعْيُنِ الرُّفَقَاءِ الْقُدَامَى –وَعَهْدُ الْأَحِبَّةِ لَا يَتَقَادَمُ، لَكِنَّهُ الْوَصْفُ حِينَ تُبَاغِتُهُ الْكَلِمَاتْ-
أُصَوِّبُهَا مُوغِلًا فِي وُقُوفِي وَوَجْهُ الْخُطَى فَاقِعُ اللَّوْنِ مُرْتَبِكٌ
نَظْرَةٌ تَتَلَخَّصُ فِيهَا الْحِكَايَةُ –لَيْلُ غِيَابٍ وَفَجْرُ لِقَاءٍ خَجُولٌ وَصُبْحٌ يُسَاوِرُهُ الْغَيْمُ.. بَعْدَ النَّظَرْ-
يَتَقَرَّبُ ظِلُّ الْخُطَى مِنْ ظِلَالِ الرِّفَاقِ قَلِيلًا.. عَلَى مَهَلٍ
فَجْأَةً تَتَفَرْقَعُ بَالُونَةٌ لِلْكَلَامْ
وَيَنْقَشِعُ الْخَوْفُ وَالْخَجَلُ الْغِرُّ:
يَا أَصْدِقَائِي.. هَلِ الْعُذْرُ أَقْبَحُ مِنْ شَهْقَةِ الْبُعْدِ أَمْ أَنَّ لِلْقَلْبِ أَنْ يَسْتَلِينَ الْمَلَامْ؟
وَ يَا أَصْفِيَاءَ الْمَدِينَةِ.. هَلْ مَا تَزَالُ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الطُّفُولَةِ مَزْهُوَّةً بِالْحَيَاةِ وَفِي خَدِّهَا يَمْرَحُ الْخَجَلُ الْمُخْمَلِيُّ وَفِي عَيْنِهَا يَتَرَقْرَقُ ضَوْءُ الصَّبَاحِ وَتَخْتَالُ أَلْوَانُ قَوْسٍ جَمِيلٍ بِآفَاقِهَا بَعْدَ دَمْعِ مَطَرْ؟
يَقُولُ صَدِيقٌ مِنَ الْأَصْدِقَاءِ تَمَادَى الْحَنِينُ كَثِيرًا بِأَضْلَاعِهِ وَالْحَنَايَا –وَقَدْ أَوْشَكَ الدَّمْعُ أَنْ يَخْدِشَ الْعَيْنَ وَالصَّوْتَ وَالْخُطُوَاتْ- :
لِمَاذَا سَكَبْتَ عَلَيْنَا فِرَاقًا غَزِيرًا وَبُعْدًا مَرِيرًا وَنِمْتَ قَرِيرًا عَنِ الْعَهْدِ وَالذِّكْرَيَاتْ؟
لِمَاذَا صَبَرْتَ عَلَى غُرْبَةٍ أَكَلَتْ رَأْسَ عُمْرِكَ إِذْ صَلَبَتْهُ عَلَى نَخْلَةِ الْإِغْتِرَابِ؟
وَهَا أَنَذَا إِذْ أَرُدُّ يَجِفُّ الشَّتَاتْ:
أَ لَمْ تَبْلَعِ الْأَرْضُ مَاءَ الْفِرَاقِ؟ أَ لَمْ يُقْلِعِ الدَّمْعُ مِثْلَ السَّمَاءِ عَنِ الْإِنْهِمَارِ الشَّجِيِّ؟ أَمَا غِيضَ مَاءُ الشَّتَاتْ؟
وَهَا هُوَ ذَا صَاحِبِي إِذْ يُرُدُّ يَفِيضُ الْعِتَابُ وَيَطْغَى عَلَى هَمْسَةِ الْأُمْنِيَاتْ:
أَ لَيْسَ لَنَا فَوْقَ جُودِيِّنَا أَنْ نُنِيخَ اسْتِوَاءً مُرِيحًا؟ أَ لَيْسَ لَنَا أَنْ نُوَاصِلَ هَذِي الْخُطَى صَوْبَ زُرْقَةِ آمَالِنَا يَا صَدِيقِي؟ أَ لَيْسَ لَنَا أَنْ نُوَشِّحَ “تَابْلَاطَ” بِالْمَرَحِ الْحُرِّ وَالْفَرَحِ الْمُسْتَمِرِّ؟ فَطَعْمُ الْحَيَاةِ إِذَا افْتَرَقَ الْأَصْدِقَاءُ مِنَ النَّكَبَاتِ أَمَرْ!
وَهَا أَنَذَا إِذْ أُفَكِّرُ -فِيمَا يَقُولُ وَفِي مَوْعِدِ الْبَاصِ- تَكْتَظُّ فِي قَلْبِيَ الْحَسَرَاتْ
لَقَدْ خَلَطَ الْأَصْدِقَاءُ شَرَابَ اللِّقَاءِ بَطَعْمِ الْوَدَاعِ
فَهَلْ هُمْ مُحِقُّونَ يَا قَلَقِي؟
لَيْسَ بَعْدَ اللِّقَاءِ الْقَصِيرِ سِوَى سَفَرٍ مُثْقَلٍ بِالْأَسَى وَ امْتِدَادِ غِيَابٍ عَلَى الْقَلْبِ كَمْ قَدْ قَسَى
يَا رِفَاقِي
إِذَنْ سَأَغِيبُ وَأَمْضِي
وَلَكِنَّنِي لَنْ أُمَزِّقَ يَا أَصْدِقَائِي جَوَازَ السَّمَرْ
مَتَى سَوْفَ نَلْقَى لِقَاءً وَسِيعَ الْمَدَى سَرْمَدِيًّا؟
مَتَى يَا قَدَرْ؟
بقلم المؤلف رضا بورابعة