ما هذا الصوت؟ يبدو كصوت مياه تتدفق من صنبور، غريبة أنا تأكدت من جميع الغرف ولا يوجد إلا أنا والجثث في المبني، أرهف السمع بعض الشيء وقام ليعرف من أين يأتي الصوت، إنه من داخل المشرحة التي بها الجثث، ولكنني أغلقت الأبواب بالأقفال بنفسي وتأكدت أنه لا توجد صنابير مفتوحة، فتح الباب ودخل، كانت هناك جثة لشاب تلقي طلقة بالخطء في رأسه، توجه إلي الصنبور وأغلقه، ظل يقلب نظره لعل أحد يكون مختبئ، ولكن لا يوجد احد، إذاً من الذي فتح الصنبور؟
المشرحة تلك الكلمة التي تثير في أذهان الجميع عالم العفاريت والظلام الدامس الذي تتخلله أصوات تترامى نحو المسامع لتدق ناقوس الخطر بهجوم احدها على كل من يحاول اختراق ذلك العالم.
مشرحة زينهم ذلك المبنى الكبير القابع في القاهرة والذي يخيم عليه الصمت، له بابان، أولهما يطل على شارع رئيسي، يعبر منه موظفو الطب الشرعي والعاملون إلى داخل المشرحة، وثانيهما مخصص لدخول وخروج الجثث من وإلى المشرحة، وهذا الباب مفتوح على شارع جانبي ضيق، وبمجرد المرور عبره تجد نفسك إزاء أبواب ذات لون كان أبيض، على ما يبدو، لكن بفعل الزمن أصبح متعدد الألوان.
وعند الدخول إلى قلب المشرحة ذاتها يقشعر بدنك، وتجد حجرتين مفتوحتين بداخل بعضهما البعض، يجتمع فيهما الأحياء بجوار الأموات، ففي الحجرة الأولى ترتص 8 ثلاجات، تحوي الواحدة منها 6 أدراج، بواقع 48 جثة، بالإضافة لغرفتي تجميد، تم تخصيصهما لـلمجاهيل غير المستدل على هوياتهم، أو الذين لم يتم تسليمهم إلى أهلهم بعد.
أما الغرفة الثانية فيوجد بداخلها دولاب به أكفان، في مقابله سرير توجد عليه أكفان، وفى المنتصف بينهما توجد منضدة عليها سخان، وأوراق، وشمع أحمر، يتم استخدامه لتشميع أي حرز يتم التحفظ عليه، بجوارها أدوات إعداد الشاي، التي يستخدمها العاملون هناك ليعدوا بعض الشاي أثناء عملهم.
غرف الموتى هي عالم أشبه ما يكون بالمقابر التي يغط سكانها في سبات عميق، لا يبوحون بأسرارهم إلا لبعض الأطباء ممن يستكشفون ويشرحون الجثث ويحاولون الوصول لأسباب الوفاة، أما الثلاجات فتحوي جثث لأطفال ورجال ونساء وطاعنين في السن، الموت يجعل الجميع متشابهين، وهنا لا فرق بين شهيد أو بطل وبين لص، فالكل سواء.
تروي حكايات كثيرة عن مشرحة زينهم، بل بعض العاملين فيها يروون قصص يشيب لها الرؤوس، منها رواية لإمام مسجد يروي أنه في أثناء قيامه بغسل أحد الأشخاص عقب وفاته بساعة على الأكثر، وعندما قام بملامسة أحد الجروح بقدم المتوفى أثناء الغسل، فوجئ بضربة موجعة لا يقوى على القيام بها سوى شخص في أفضل حالاته الصحية وليس ميتا.
كل هذه الحكايات والروايات ينفيها العم محمود ذلك الرجل الطويل القامة الأحدب النحيف الذي تجاوز الخمسين من عمره، والذي يضع عمامة كبيرة على رأسه تخفي معظم وجهه مع جلباب صعيدي ليبدو صورة للمصري الأصيل، يقول إن كل هذه تخاريف ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يصدق منها أي شيء.
ويقول أن خوف الناس هو ما يجعلهم يتوهمون هذه الأشياء، أما أنا فالحمد لله لا أخاف إلا من الله، ولهذا يطلقون علي القلب الميت، بل ولا يجرؤ أحد أن يبيت معي في هذا المبني.
أما في هذه الليلة فجلس العم محمود يفكر وقد بدء القلق يتسرب إلى قلبه، ولا يجد جواباً لهذا السؤال: من الذي فتح الصنبور؟
بقلم المؤلف أحمد علي أحمد سويلم