اطحني الحَبْ أیتھا الرَحَي
اطحني أیتھا الرَحَي آلامنا الجسیمة
لسنا واحداً أو اثنین
نحن آلاف الألوف، ولكن..
في أربعة أماكن منقسمون”
******
في بُقعةٍ أحكم علیھا المَوت قبضتھ وحاصرتھا رائِحتَھ من كل ناحیة كانت الحَسْنَاء
الكُردِیة تتوسد تَلَّة صغیرة ضمن مَھام وحدَتھا حراستھا والذود عنھا قُبیل مدینة
“كوباني”
مُتشبثةً ببندقیتِھا الآلیة وغنائِھا، عكفت “بیریفان” تُدندِن بكَلمات أغنیة “الرحي”
عسي أن تطرد الفزعَ والیأسَ اللذین ینھبان أرضَھا
بدا الظلام في ھذه اللیلةِ الغَطشاء سرمدیاً بلاانتھاء، لینزوي أملُھا في أن تمحق
سوادَھا شمسُ النھار، فلم تبزغ غیر شموس الانفجارات وألسنةِ اللھب
حتي الصمت الذي یتخلل فترات القصفِ فھو مُریب مُوحِش لا یوازیھ إلا وَحشة
قُلوب الدواعش
مِسكینة ..ربما لو كانت لھا قصةُ أخري لأصَبحت من نَجماتِ السینما أو مَلِكات
الجمال
ولما لا؟ وھي ذات الوجھ الملائكي و العینین العسلیتین النجلاوین اللاتي تأسران
قلوب أشد الرجال
لكنھ خیارَھا ..أن تُقتل دون قومھا.. مُقاتلة من البشمرجة.. واحدة من اللذین
لایھابون المَوت
وبالرغم من قسوة الاختیار لم تذھلْ عن أن تعني بمواطنِ أُنوثتِھا ، فضَفَّرت
خصلات شعرِھا النحاسي في جدیلةٍ واحدةٍ كسنبلة فرنسیة
ركضت “بیرینا” نحو تلةٍ أخري وسُیول الرَصاص تتدافع مِنْ حولھا فتَلطخ
حذائُھا رغماً عنھا بدماءِ قریناتِھا الصَرعي
سُحقاً للغربِ..
مَكرَ بھم أولادُ الأبالسة، فضَنُّوا علیھم بمددِ طائراتِھم وذَروھم فرائس لأنیابِ
وحوش الفَلاة تنھشُ فیھم كیفما شاءت
٢٠
ربما لانشغالِھم بالاستحواذ علي آبارِ النفط، أو لتوریط الأتراك في مُستنقعِ الحَرب
البریة مع أصحاب الرَایاتِ السود
دارت رَحَي الحرب صحیح..
لكنھا لَمْ تسحق إلا الأكَراد.
*****
اللعنة..
الصیحاتُ تتعَالي..
تكبیراتُھم الكاذبةُ تَصُم أُذنَھا..
قد صاروا علي مقربةٍ.. فأصبح المَوتُ منھا قاب قَوسین أو أدني
لافرار.. الھروب مَحال..
لانجاة سوي في معجزةٍ مثل عَصا “موسي” أو أسطورة “نوروز” .
آآآآآآآآآه یانوروز..
كانت “نوروز” حكایتَھا المفضلة التي شغفت بھا منذ الطفولة ..وولعت بأغنیتِھا
الشھیرة للمُطرب “حسن زیرك”
تروي الأسطورة أنھ في سالفِ الزمان عاشَ سُلطان جائر اسمھ “الضَحاك”، لما
حكم حَلّت اللعنة علي الأرضِ فغابت الشمس..
وكان یُروي أنَّ لھ أفاعي شرھة لاتشبع إلا من رؤوسِ الأطفال..حتي اھتدي حدادٌ
فَطِن یٌدعي ب”الكاوي” إلي حیلةٍ ذكیة..
فأَبدل رأسَ طفلَھ برأسِ خروف فالتھمتھا الأفاعي مَخدوعة، لیُبایعھ بعدھا أھلُ
القریةِ علي النصر فائتمنوه علي أطفالِھم حتي یُعید الكَرَّة فتكون نجاتَھم
حتي نَجَح في تَنْشِئةِ جیشٍ من الأطفال فوق الجبلِ، فلما شَبوا ھجموا علي الملكِ
الظالم حتي قتلوه..
لیقیم “الكاوي” بعدھا مشعلاً عظیماً بین النھرین یُبشر أھلَ القریة بزوال العھدِ
البائد وشروق الشمس من جدید
فصار ھذا الیوم عیدَھم..النوروز
تذكرت یومھا كیف كانت تلبس أبھي حلیتِھا لتلھو وترقص الدبكة مع قریناتِھا،
فدمعت
لكن یبدو أن الضحاك وأفاعیھ لم یندثروا كلیةً فجاء الدواعشُ من نَسلِھم الشیطاني
یبیدون الحرث والنسل لیبذروا الكراھیةَ أینما حَلُّوا .
تخیلت نفسَھا ورأسَھا مُعلقة في ید داعشي أشعث أغبر فجَفلت..
لو عثروا علیھا حیة فمصیرُھا محتوم
فإما النحر وإما أن یسترقَھا أحدُھم بین فخذِیھ..
كلا لن یحدث ھذا ..لن یظفروا بروحِھا أبداً
ومع قرب نَفاذ ذخیرتھا وانھیار عزیمتِھا، قَلبَّت في راحتِھا رصاصةً قد ادخرتھا
لمثل ھذه الساعة، ثم حَشوتھا في سلاحِھا
ألصقت فوھة بندقیتِھا أسفل ذقنِھا، وعادت تُدندن
اطحني الحَبْ أیتھا الرَحَي
اطحني أیتھا الرَحَي آلامنا الجسیمة
كتبت علي ھاتفھا اللاسلكي
“وداعاً”
ثم ضَغطت عَلي الزناد.
بقلم المؤلف عمرو صالح