قالت اكتب … اكتب عن مدينتك، اكتب لي عن الناس، عن النساء، نساء بلدك جميلات، فهل من سبيل للمنافسة؟ قالت.
حاولت أن أرد عليها، فوضعت يدها على فمي، وأشاحت بنظرها إلى الخزنة الكبيرة، التي كنّا نجلس على مصطبة خشبية أمامها في البتراء، تأملتها بصمت، وقالت: اكتب عن المكان، عن لهب الشموع وتناغمه مع صوت ناي البدوي المنلفت من اقصى الخزنة. اكتب عن تلك النبتة، التي تنط من بين الصخور في أعلى نقطة في واجهة الخزنة، لأنها الشاهدة الوحيدة على أول امتعاض لي، وأنت تسرق قبلةً مني.
اكتب على راحة يدي، بقلم كحلتي الأسود. قالت هذا، وهي تمد كفها لي، وراحت بيدها الأخرى تبحث في حقيبتها الجلدية عن الكحل. كانت تخجل وهي تخبرني عن جهاز سمعها، الذي تحاول أن تخفيه تحت خصلات شعرها المنسدلة على طرفي أذنيها الرقيقتين. كانت تذوب في الخجل.
وهي تردد: اكتب لي…
ورحت أكتبُ على كفها، وأجيبُ على أسئلتها. بينما كانت تقرأ رسم الكلمات على شفتي عند لفظها، حتى ظهر القمر بوجهه الكبير، من خلف جبل، كان يلقي بظلاله على الفسحة الأمامية للخزنة، حيث تنتشر الشموع. وبدا الأمر غريبا، عندما شاهدت كلماتي تتلاشى بين خطوط كفها، ما دفعني إلى أن أكتبها مرةً ثانية وثالثة، بينما كانت هي تبتسم لذلك، حتى ذقتُ طعم حروفي المكتوبة بقلم كحلتها من بين شفتيها الزهريتين. واستطعت أن ألفظ الكلمات، فتسمعها بطريقة شفاهية، طريقة ملموسة، محسوسة، كانت تسمع كلماتي بين شفتيها وأنا الفظها.
كنتُ أشعرُ أني مميز لأن حبيبتي تعاني من ضعفٍ في السمع، كنت أشعر بأنني مميز، عندما تطلب مني تكرار كلماتي وإعادة لفظها، بينما كانت تركز على شفتي البنيتين من أثر التدخين. لرسم صور الكلمات. فأكرر لفظ الكلمة وانا اشير بكلتا يدي بطريقة اشارية لتوضيح المعنى. فتبتسم عند فهم كلماتي وتهز رأسها لي بالايجاب.
بدت الخزنة كأنها بوابة قصرنا، ولم نتردد في ولوجها، فغادرنا مكاننا ورحنا نصعد، سلم درجات الخزنة، بينما كان القمر أكبر مما كان يبدو عليه في أعلى قمة للجبل. كنت اتمنى أن نبطئ خطواتنا أكثر مما كانت عليه من بطءٍ. ولم أشأ أن تنتهي الليلة. لكننا تابعنا المسير، حتى وجدنا انفسنا داخل غرفة كبيرة، حيث وجدتني أطوف حول سرتها بلساني، وأجس كل جزء منها في رحلة استكشافية لأماكن لم ازرها من قبل.
سحبتني ، طرحتني، حاولت أن تقتلع شفتي من مكانهما، ثم طلبت مني أن أقبل قدمها. ولم أمتعض، وتذكرت غسان كنفاني ينحني على قدمي غادة السمان. وبكل هدوء أخذت أصابع قدمها، اتذوقهم الواحد بعد الاخر. كان لكل اصبع طعم يختلف عن الاخر، بينما كانت هي تنظرني بعينين خافتتين من الخدر. مثل من أصابه النعاس في اخر الليل. كانت أشبه بتمثال روماني، يطرح نفسه بشكل أفقي على سرير تلك الغرفة البيضاء، بساقين رخاميتين، لكن بملمس اسفنجي، تنتهيان في أعلاهما إلى عرش موروك، يطل على شرفة خصرها النحيل. وكأني بطقس صوفي، أذوب في قمة عرفانه وتبجيله. حتى نبهتني من طقسي، وطرحتني على وسادتي ثم مدت كفها، وناولتني قلم روجها الاحمر وقالت:
اكتب لي، ما تود ان تقوم به هذه الليلة؟
فكتبت لها، ولم تمانع..
بقلم المؤلف حسن فالح