هذه المرة قررتُ أن أتغير فعلا. فالأحداث العامة الكبرى تُغيِّر من شخصية الإنسان بلا شك. وإن لم يتغير الواحد منا بعد أحداث كهذه فمتى يفعل؟ أقول: هذه المرة قررتُ أن أتغير فعلا. وها أنا الآن أكسر مدار يومي الثابت فأخرج من مقر عملي لا إلى مقر إقامتي بل إلى البحر.
منذ سنوات وأنا أحلم بأن تكون هذه التمشية فقرة دائمة في اليوم. فأنا أحب البحر، ليس كما يحبه الناس، فالكل يقول إنه يحب البحر، لكنني أحب البحر فعلا. فأنا أحب الجلوس أمامه والسباحة فيه وأحلم دائما بتملُّك شقة كبيرة في طابق عالٍ ترى البحر مباشرة. بل أحبه إلى درجة أنني أتلذذ بأكل كل أنواع السمك تقريبا. لكن إن سألتَني عن أكثر ما أحبه فيه أجبتكَ بلا تردد: أحب اتساعه الهائل ورحابته اللامحدودة. وأذكر أن أحدهم قال إن كلمة “بحر” هي مقلوب كلمة “رَحب”، وهي ملاحظة ذكية أعجبتني.
أقول: أحب البحر فعلا، لكنني رجل متزن وأعلم أن لكل شيء عيوبه، ومن أكبر عيوب البحر ذلك الرذاذ الذي بدأ يستقر على زجاج نظارتي. ألا يستطيع البحر أن يدعني أتمشى بقربه دون أن يرشَّ نظارتي ووجهي كله بتلك القُطَيرات المالحة التي لا يستطيع المرء إزالتها تماما إلا بالغسل؟!
لكن، مهلا! ها هو العيب الأكبر. فأنا الآن أرى بوضوح – رغم أنني لم أغسل النظارة، فحتى غسلها عبث مع توافُد الرذاذ بلا انقطاع – شاباً وفتاة يجلسان في تقارب مُريب على إحدى تلك الكُتل الخرسانية الضخمة التي وُضِعت في الأصل لردّ أمواج البحر، فصارت – فيما يبدو – ملاذا لأفواج العُشَّاق! أتعرف؟ إن أكبر المشاكل التي تواجه قرارك بتغيير نفسك هي أن الناس لا تتغير معك! ماذا ينتظر هؤلاء حتى يُدركوا خواء عقولهم ووضاعة سلوكهم؟ يبدو أن تلك الأحداث الكبيرة لا تُغيِّر صغار الناس.
لكنني قلت إنني سوف أتغير. وأول هذا التغيير أن أكون أكثر إيجابية في تغيير الآخرين. أتلكَّأ في مشيتي لأحدجهما – لعلهما يخجلان قليلا – بنظرة ساخطة فلا يشعران. أظن أنهما لم ينتبها لوجودي، بل لوجود أي شيء سواهما، لأنه أخذ يقترب منها أكثر – كأنما ليغيظني فقط – ليحيط خصرها بذراعه.
أتوقف خلفهما تماما وأتنحنح بصوت مسموع لكنهما يظلان في غيابهما التام عن العالم، بل أراه يميل بجسده كله إليها كأنه يهمّ باحتضانها. أشعر بالحرارة تسري في عروقي وأنا أراه يحتضنها بالفعل. هل وصل الناس إلى هذه الدرجة من الانحطاط؟ لكنهما لا يندمجان في العناق، بل أراه يحاول – دون أن يتخلى عن احتضانها – أن يساعدها لتنهض واقفة، بينما لا تزال هي عاقدةً ذراعيها حول عنقه باستماتة عجيبة كأنها ستسقط في هاويةٍ ما إذا تخاذلَت لحظةً في تشبثها هذا! لحظات تمُرُّ يُخيَّل فيها إليَّ أنَّ كل عضلة في جسديهما ترتعش في انقباض، رغم انبساط ملامح وجهيهما. لحظات قبل أن يقوما واقفين، ثم ينحني هو – ويُمناه مُحيطة بخصرها بإحكام – حتى تصل أنامل يُسراه إلى موضع قدميها كأنه يريد أن يلتقط شيئا قد نسياه هناك.
موجة عارمة تلطم – بلا سابق إنذار – وجه الصخرة التي يقفان عليها بالذات. يتداخل صوت انهمار المياه مع صهيل ضحكهما الوحشي. يضحكان وهو يُثبِّت تلك العُكَّازة المعدنية تحت ذراعها الأيمن. يضحكان وقد ابتلت ملابسهما تماما حتى التفَّ ثوبها محتضنا ساقها اليسرى الوحيدة. يضحكان ويتركاني لشظايا الموجة تتكاثف فوق زجاج نظارتي الذي أمسى مُعتما بالكامل. صرتُ لا أراهما، لا أرى البحر، لا أرى شيئا.
المؤلف:
أحمد الديب كاتب من الإسكندرية. درس الصيدلة وهجر مجالها بعد فترة قصيرة، ويعمل حاليا بمكتبة الإسكندرية. يكتب القصة القصيرة وله مجموعة قصصية بعنوان “حكايات بعد النوم” نشرت عام ٢٠١٤.