تلحف الشتاء سرابيله ودلقت برودته على روابي الرّيف، الأرض التي تعبق الطيبة من طينها..من عرق أهلها.
بين وهاده تواضعت بيوت طينية لاتكاد تخفي ما بداخلها بعدما طفحت أسرارها بين أهلها، يلوكونها رغيفا ليومياتهم المرهقة بمخاض الفتنة الذي شكّل مع
الفقر متلازمة عيشهم، قريبًا منهم كان النهر يتلوّى في عنفوان حاملا بين ضفتيه أحجيات معلقة بين الوهم والحقيقة، تزهر في منتهاها سذاجة أحلامهم. تحت حمرة سقف عتيق ظلّل الشوق حناياه، نام الحلم طويلا ليصحو على فجيعة.
عاد إليهم بعد غربة تُوشِّح ظله امرأة ــ بعدما أغواه بريق التمدن الزائف ـــ فخرب عشًّا دافئًا لأطفال ظل ريشهم ينمو في طمأنينة وهم ينتظرون خلف أحلامهم المؤجلة عودة والد سيحضن شوقهم..سيضيئ بحضوره ليل غربتهم الطويل..من بعيد مد الأمل يديه ليعانقهم، ليعبّد دربًا تختزل مسافات الإنتظار.
أخيرا سيخلو لهم وجه أبيهم الذي ظلوا ينحتونه شوقا على صخور البراري، ثم يدسّونه بين ذكرياتهم، ويحفظوه بعيدا في أعماقهم حتى تحين مواسم اللّقاء، لكن جمر الغيرة المنبعث من هشيم العمر الضائع أحرق لهفتهم فتكدّر ماء الفرحة في عيونهم.
فتح على نفسه أبواب الحرج وهو يطلّ على أهله ليلا يتبعه ظلّ امرأة متحضّرة، رافقت دربه من العاصمة أين يعمل، طبعت الحيرة وجوه أهله فيما لامس تيار الخيانة قلب زوجته وسكن العتاب عينيها…راح الصغار يحملقون في وجه أبيهم ــ كأنهم أضاعوه بين الصورة والواقع ــ ينتظرون ما جادت به جيوبه من أصناف الفرح بعدما اكتنزت دنانيرا…لكنه حطّم ذهولهم بقوله أنّها زوجة صديقه الذي يعمل عسكريا، ولابد أن يعود إلى القرية حذرا لأجل الظروف التي تعيشها البلاد، وأنها ستمكث بينهم بعض الوقت لحين عودته. مرّت الحيلةَ على صفاء سريرتِهم فقبلتها قلوبهم على الفطرة ..لكنه نأى بوالديه جانبا وأفشاهم سرّه فكتموه .خلد الجميع إلى النوم على حكايا العاصمة بعدما سافر كل واحد منهم بخياله عبر أزقة أحلام اليقضة راسمًا لها صورة نمطية في فسحة خياله.
في الغد طلب من زوجته أن تحضّر حجرتها لضيفتهم لأن البيت ضيق ولا يليق بمقامها، طيبة بنت الريف وسذاجتها لم تمنعها أن تغمر ضيفتها بكرم مشوب بالحذر. في اللّيل تسرّب خلسة إلى غرفته، تبعته زوجته بحدس ِامرأة فادّعى بمكر رجل، أنّه كان يطمئن عليها مادامت غريبة عن البيت ولا تعرف غيره..لكن الحظ الذي رافقه طويلا من العاصمة خانه لينهار جدار النكران أمام إلحاحها على معرفة الحقيقة، فجهر لها بالقول أنها زوجته بفاتحة الكتاب، خرجت الكلمات حادة من بين شفتيه مضت كالخنجر في روحها، مهوسة بالثأر لشرفها. كان الأولاد يحدقون في المشهد ببراءة، مارّين بين سطور الشفقة على دمع والدتهم والإشتياق لوجه أبيهم .
خمدت نيران العتاب على نظرات حزينة منها كانت نهاية للموْثِق وبداية للشقاء ..صمتها ألقى بالطمأنينة على قلبه فجنح للنوم، حين سكن الليل كان لهيب النار قد التهم جسده، بعدما مزّق صريخه هدوء البيت وأحشاءه لكنه لم يكف لنجدته فقضى وضيفته داخل غرفته ..
فتح السجن غياهبه سنينا لزوجة طعنتها الخيانة فنزفت حقدا مزّق أحلام أطفال ذنبهم أنهم ولدوا في قعر الجهل، وكان حلمهم أن يناموا تحت ضمّة جناحين …
بقلم المؤلفة أم تميم