حدث كل شيء بسرعة.. حتى أنه لم يجد الوقت الكافي ليبتعد و لو نصف متر آخر قد يجنبه خسارته الأكبر، في حين كانت المدينة تقدّم آخر ضحاياها، و توقع شهادة عجزهم الطبّي على ورقة واحدة تحمل أكثر من عشرين اسما.. كأي مقبرة جماعية تحترف المدن العربية طقوس افتتاحها، تماما كمرقص شرقي جديدٍ مقابل للمسجد الوحيد الذي تحاصره الحانات من كل جانب.
كان شارع “ديدوش مراد” الذي يحتفظ قسرا بتسميته الفرنسية القديمة “les R4” يستيقظ كعادته على صوت آذان الفجر.. يخلع بتكاسل متعمّد معطف السواد الذي تدثر به ليلة كاملة، و يقعد إلى جانب بائع التبغ العجوز دائم الشكوى. أو يلتقط مع طيور الحمام فتات الخبز المتساقط من نوافذ نصف مشرعة تطلّ من إحداها سيدة في الأربعين لم تكلف نفسها عناء تسريح شعرها.. تنفض سجادها المطرّز بنمنمات مغربية بارزة، غير آبهة لنوبة العطاس التي تصيبها. و على شرفة مقابلة، سيدة أخرى تفتتح يومها بعادة صباحية مغايرة تماما.. فمن تحت شرفات البيوت السكيكدية أنت أمام احتمالين لا غير، إما أن تتعود استنشاق ذرات الغبار التي يتحسس أنفك منها.. و إما أن تحترف العبور الرشيق تحت الشرفات تجنبا لما قد يتقاطر من دلاء النساء المدمنات على طقوس تنظيف الأرضية كل ساعة.
أمام زائر غريب يدخل سكيكدة أول مرة، اصطفت الأقواس الإسمنتية للممر في تناسق مبهرٍ.. و هي ترافقه إلى نهاية الشارع، كحبيبة تودّع حبيبها و شيء سريّ داخلها يطلب منها أن تستبقيه دقائق أطول، لكنها تكتفي بالدعاء له و هو يضع قدما أولى خاج القلب. متجها شطر شاطئ “سطورة” الذي استيقظ هو الٱخر مع أولى خيوط الضوء.. بعدما عاد صيادو السمك إلى الميناء محملين بصناديق السردين الذي تشتهر به المدينة..
استند بيد متعبة إلى القوس الهشّ ليلتقط أنفاسه.. و هو يقرأ إعلانا ورقيا يبدو أنه أُلصق قبل أكثر من سنة بالجدار الإسمنتي، دون أن يكلف أحد المارة عناء تمزيقه كما يحدث غالبا.. “شاطئ سطورة بسكيكدة جنة الله في الأرض..” و ربما فكّر في صحة هذه الجملة الإشهارية، قبل أن يتهم نفسه بالجنون.. فرصيف فوضوي كهذا لن يوصله حتما لأية جنة.
و قبل أن يتجاوز آخر قوس.. هزّ كيانه صوت ارتطام عنيف. و انطفأت الأضواء من حوله.
بعدها بيوم واحد مرّ بطيئا عليه في غرفة الإنعاش، كتبت جريدة تدّعي السبق في كل شيء؛ “انهيار بناية في المدينة القديمة بسكيكدة يخلف .. أكثر من عشرين جريحا.”
بقلم المؤلف محمد بوثران