حيُّ الشُّجَاعِيَّةِ

Family running away in Gaza

صباح الخير أيتها الشهداء، نهاركَ جميل بنَا أيها الوطن ….

قبل أن أقول كل شيء لآلاف البشر الذين يشاهدونني على شاشات التلفاز، علي أن أستجمع كل قطع الذكريات المتشظية هناك، و أن أحفر لها قبرا عاشرا و أقرأ الفاتحة على تلك الأشلاء التي لم تجد قبرا يسعها، ستظل تسافر معي و تطلب الثأر، علي أن أمشي على رؤوس أصابعي، فلعل قلبا صغيرا انتثر هنا فوق هذا الرصيف، علي أن أحني رأسي قليلا و أتجنب النبش العنيف، فهذه أنامل “مريم” بين هذا الركام الرمادي، هذه ألعاب ” ورد” المخزوقة، و التي يخرج الصوف من منخارها، و قليل من الدم، هذه أساور ” نهلة” التي ترج بها سكون الليل، هذه كتب ” الجليلة”، أقلامها، دفاترها… هذه صورة العائلة. و الفانوس الذهبي الذي اشترته ” راما” لتستقبل به رمضان، حين رفعت الآلة الصفراء تلك سقف البيت الذي انهار كلية فاحت رائحة العائلة كلها دفعة واحدة، كدت أسقط، ارتجفت ساقاي و ما عادت تحملانني أكثر من ذلك، تركت كل شيء و عدت أجري و أسقط و أتعثر بين أكوام الركام. حتى وصلت شارع النزار في حي الشجاعية، كان الناس يغادرون الحي، مشاةً يعيدون في ذهني صورة النكبة الأولى، عدسات الكمرات ترقبهم، و ألف سؤال يلح دون جواب، أين تذهبون؟ و يعلوا صراخ قادم من خلف التاريخ: عودوا إلى دوركم، فليس في غزة كلها مكان آمن، المدارس قصفت، المشافي قصفت، حتى بيوت الله قصفت، عودوا أيها الشهداء الصائمون، ارجعوا إلى مساكنكم كما كان الربيع، الجنة موعدكم، الجنة موعدكم و عاد ذلك الصوت يخبو قليلا قليلا حتى خيم الهدوء على المكان، لا تسمع إلا صوت نعالهم تقرع الأرض، الكل يمشي مسرعا فلم يبق على نهاية الهدنة إلا نصف ساعة من الزمان.

جلست على جانب من ركام أحد البيوت، وضعت رأسي بين يدي، أمسكه كي لا ينفجر، أحسست بعطش شديد، هو ذاته العطش الذي راودني حين كنا على سفرة السُّحُورِ مجتمعين، و تتفرق ظلالنا على الحيطان، شمعة واحدة تضيء كل بيتنا، كانت “راما” ترسم لنا بيدها مسرحا للظلال، تجمع أصابعها الصغيرة، و تقترب من الشمعة و تقول لنا بصوتها الحاد: هاي فراشة، شوفو كيف بطير، و هيها عم بتحط فوق راسك يا جليلة.

ضحكنا من مزاحها، سألتها أمي: هل ستصومين غدا؟ فأجابتها راما: هو احنا لازم نجوع و نخاف عشان نروح للجنة؟ لم يجيبها أحد إلا قذيفة ألقى بها العدو على بيتنا.

لم أنم منذ أيام، لم أفطر، دوي الانفجارات و القصف يحول بين العين و غفوتها، يحول بيني و بين أحلامي، بيني و بين عائلتي في ذلك الفجر مسافة قدح من الماء ذهبت أشربه قبل الإمساك، فما هي إلا قذيفة واحدة حتى انتهى كل شيء”

هذا آخر ما قالته ريم عياد، قبل أن تغفو تلك الصبية الحسناء التي نقلها الإسعاف وحيدة إلى مجمع الشفاء الطبي، لا أحد يعلم ماذا حصل مع عائلتها، كل ما تتذكره أنها فرت من جحيم القصف إلي بيت جيران لهم في الحي، و بقيت هنالك أياما كثيرة، حتى أعلن العدو هدنة كاذبة.

 

بقلم المؤلفة مريم بلقيدوم

اختر مغامرتك

علينا أن ندفن ماضينا، ولكن ليس لدينا

أ) الحيز المكاني لا عقليا و لا ماديا للقيام بذلك.

ب) أي مستقبل نتطلع إليه.