أرض الينابيع الملعونة

Hammam Maskhoutine, Algeria

في زَمَانٍ بعيدٍ، لا أَحَدَ يعرفُ مَتَى حَدَثَ ، لَكِّنَهُ حَدَثَ على هذه الأَرْضِ الَّتي تَشْهَدُ مَعَالِمُهَا وتَضَاريسُهَا على تِلْكَ اللَّيْلَةِ الغَريبَةِ وَتُذَكِرُنا بأحْدَاثِها وشُخُوصِها كأنها كانَتْ لَيْلَةَ البَارِحة. حِكايَةُ هذا المكان بَدَأتْ مع تِلك اللَّيْلَة، لكنَّها لم تَنْتَهي مَعَها، فأسْرَارُ هذا المكَانْ مازالَتْ تَعيشُ بَيْنَنَا. حِكايَةُ هذا المكان حِكَايَةُ فَارِسٍ شابٍ وُهِبَ كُلَ الصِّفاتِ الجَمِيلَةِ من قُوَة ٍوحُسْنٍ وبَهاءٍ وجَسَارَة . كان أبوه زَعِيمَ قَبيلَةٍ قَوِيَةٍ حَلَّتْ بهذا المَكَانْ، وَطَابَ لها المقَامُ فيه فالأرضُ كثيرةُ الخيراتِ ووافرةُ المياهِ، وكان الجَميعُ يعيشون فيها في رَغَدٍ ورَخاءٍ وسَعَادة، إلى أن أَلَّـمَ بزعيمِ القبيلةِ مَرَضٌ مُفاجِىءٌ ومَاتَ على إثرِه وحَزُنَ الجميعُ لهذا المصابِ. ولكن كان على شيوخِ القبيلةِ أن يعيِّنوا وَلَدَهُ زعيمًا للقبيلة خلفًا له. وكان على هذا الفارسِ الشاب أن يُحَقِقَ شرطًا حَدَّدَهُ أَسْلافُ القبيلة، وهُو أن يتزوج ليلة تعيينِه زَعِيمًا بأُنثى تَفوقُه جمالًا وتُكافِؤه حَسَبًا ونَسَبًا. كان على هذا الفَاِرسِ أن يَعْثُر على امرأته بسُرْعَةٍ وأنْ يَعقُدَا قِرانَهُما في حَفْلٍ تَوَلِيه الزَّعامَة، لم يكن في هذه القبيلة أيُ أُنثى تفوقُ هذا الفتى جمالا ولا مَنْ تُكافِؤه حَسَبًا ولا نَسَبًا. شَغَلَ الخَوْفُ بِضَيَاعِ الزَّعَامَة عائلةَ الفارسِ والمقَرَّبين مِنْه. وبينما هم مُجتمعِينَ يُفَكِرون في حَلٍ للمشكلة. وبينما صَمَتوا جميعٍا عاجزين عن إيجاد حَلٍ. سَمِعُوا صَوْتًا يخترق هذا السُّكُون المـُطبَق، صَوْتُ عجوزٍ هَرِمَة مِن بينهم تقول: (ان كُنْتَ تريد أن تحفظَ الزَّعامة من الضياع، فَعَلَيْك أن تَقومَ بالمحضور). اِلْتَفَتَ الجميعُ إلى العَجُوز بِذُهُول؛ وسُؤالٌ واحدٌ يَتَرَدَدُ على ألسِنَتِهِم : ما هو هذا المحضور؟

قالت الجدة بمكرٍ وحيلة: (نعلَمُ جميعنا أنَّ ما من أنثى تفوقُك جمالا ولا تُماثِلك شَرَفًا غير أُخْتِك الصَّغيرة الحسناء الفاتنة، ولا حَلَ لَكَ سوى بزواجك منها. وان كان هذا لم يحدث مع أحدٍ مِن قبل فأنتَ لَسْتَ أيَّ أحدٍ). بَدَت الحيلةُ مُقنِعَةٌ للجميع، ولكن كان على شيوخ القبيلة أن يقتنعوا بها، وهذا ما لم يجد الزعيم الشاب صعوبة فيه، فقَد خَيَرَهُم بين القَبُول أو القتل. ونادَى الزَّعيم الشاب في أهلِ القبيلةِ وشُيُوخِها: (ستشهدُون الليلة حفلَ قِراني بأختي الحسناء وسَأُتَوَجُ بذلك ملكًا عليكم). حَلَ اللَّيلُ سريعًا، كان كثيرٌ من أهلِ القبيلةِ قد هجروها استنكارا من هذا الفِعْلِ الشَّنِيع الّذي يوشِكُ الفارس ومَن مَعَه على ارتكابه، كانوا يُرَدِدِون بخوف: (ما سَمِعْنا بهذا من قبل، ولا فَعَلَهُ غَيْرُه، انَّهُ مُنْكَرٌ كبير، سَيَسْخُطُ الأسلاف والأجداد وسَتَحُلُ عليهم اللَّعنَة).

بدأ الحفلُ، وتَزيَّنَت العروس، ولَبِسَ العريسُ أَحسنَ حُلَةٍ ، وخرجا على النّاس وهم يحتفلون في صخبٍ ومُجون، كانت النِّسوة يحضرن عشاء المأدبة، بأشهى الأطعمة وكانت القدور تغلي على المواقد. والنّاسُ يتراقصون هنا وهناك. وما هي إلا لحظاتٌ حتى حَدَثَ هَوْلٌ عظيم، انفجرت الأرض من تحتهم بالحِمَم، تحَوَلُوا على اِثْرِ ذلك جميعا إلى حجارةٍ مِن مزيج الطين والمعادن المنصهرة، ضلوا جاثمين كما هم تماثيل من صخور عجيبة. وانبثقت عيونٌ من المياه الحارة تجري بينهم وتغلِّي في القُدُور التي كان يُعَدُ فيها عشاءُ لَيْلَتِهم المشؤومة.

إنهم هُنَا مازالوا على هيْئَتِهِم التي كانوا عليها، تَنْفَجِرُ العُيُونُ بَيْنَهُم ينابيعًا حارة، يَقْصِدُهَا النّاس للتَّشَافي مِن العِلَلْ، فقد شاعَ أنَّ ماءَ هذا المكان ماءٌ معجزة. مازالَ كُلُ مَن يَقْصِد المكان يَنْظُر إلى تماثيلهم بعَجَبٍ وانبهار، ومازال النّاس يتداولون قِصَتهم ويصدقونها رغم كل هذا الزمن. إنها الينابيع الملعونة الشافية التي يُسميها النُّاس هُنا “حَمَّامُ المـَسْخُوطِين” ويوجد بمدينة “قالمة” الجزائرية.

 

بقلم المؤلف وفاء عبداللآوي