أستيقظُ متأخرا. مثل صيّب شهوة عارمة أيقظني. أتحسسُ مفاصلي، أرطبّ شفتيّ بلساني وأفكر في أن اليوم ليس باليوم العادي، سألتقي “لويزة” بعد العصر. أول مرّة تعدني فيها امرأة بأن تغدق عليّ بشيء من لحمها ودمها، مجرد التفكير في هذا يجعل مسحة تحفز عاتيّة تجتاح جسدي. قالت أننا سنلتقي في “ليبانغالو” وأنا رحبتُ بغبطة وحماس، بلغتُ العشرين والمرء في هذا العمر تسكنه جذوّة ملحاحة لاختبار رجولته، في العشرين لا يصبح الالتفات للخلف ممكنا لاسيّما في هذا المدينة المنتفضة، إما الضحالة أو التميّز على قول كولن ولسون.. نزلتُ سلالم العمارة المسكونة بالصدأ، نثرتُ نظراتي المتقدة على جزء المدينة الظاهر أمامي، ساعة الساحة الكبرى تُشير الى الثانية بعد الظهر، تقل حركة الساكنة في هذا الوقت من شهر ايلول، يركب الأطفال مدارسهم ويتجه البعض إلى دوالي العنب بالقرب من “دواودة” لقطفها.. أمرّ على ماخور المدينة القديم، مبنى كولونيالي مهدّم في بعض جنباته تصرّ السلطات على تطهيره من مريديه المكبوتين، بينما يناور هؤلاء لاستبقائه، لم ألجه يوما برغم دعوات الأصدقاء الحثيثة، لا أحبّ تلكم الفتيات اللاتي يضعن أصباغاً كثيفة على وجوههن فيُمسين مثل جنيات بحر مَجّهن من أعماقة مطرودات. أُراكم الرغبة وأنا أمرّ قُبالة حي بانوراما الآيل للسقوط، يرقب الشيوخ والنساء المارين بفضول، يشرئبون بأعناقهم من على الشرفات المُبقعة بالأسود بفعل التيارات الهوائية الصاخبة المندفعة من الجهة الشمالية حيث البحر، أشتم رائحة الباذنجان مقلي مُضمخ بالتوابل، أُبصر فُتات خبز متيّبس مبتل على افريز الطوار ثم أغذ الخطى..
أمام ملهى “مرجانة” أنحرف شمالا حيث محل الايطالي لورينزو الذي استيقظنا يوما فوجدناه قد استثمر في مدينتنا ببيع الأكلات الايطالية، أطلب “باستا بوكانتيلي”، يمر وقت قبل أن يأتيني لورينزو نفسه بالصحن، أسأله بالفرنسية مداعبا إن كان ينوي استعمارنا بمجيئه الغريب الى مدينة “فوكة” والى الجزائر عموما، يبتسم ويقول لي أنه بحلول عام 3016 سيقولون أن الرحالة لورينزو دي ساكو فعل كذا وكذا في فوكة مثلما نتحدث نحن في ايطاليا عن ما كتبه وما فعله “ابن حوقل” عند زيارته لصقلية قبل اكثر من 1000 عام. أقهقه ثم التهم الصلصّة والسردين والمعكرونة المجوّفة، أتجشأ برغم عدم شبعي، أصيخ السمع لآذان العصر وهو يدوي من جامع النصارى الذي كان قبلاً كنيسة صغيرة بناها المعمرين الأروبيين في زمن الاستعمار.
وصلتُ إلى “ليبانغالو” الموعودة، حيث تتناثر بيوت سياحية مجيّرة ، تبدو فارغة من روحها وقد أفل الصيف. تراودني صور لويزة –البنت التي تدرس بنفس جامعتي-..نهداها المتكبران بحلمتين بارزتين كلآليء مسبحة صلاة جدتي، شفتيها المتحفزتين للتقبيل وهما تصبوان للمداعبة، أشعر بعضوي ينتفخ، أفرك وسط بنطالي ثم أخطو الى رصيف الحوانيت على ضفة البحر، أسمع أصوات السمّاكين وهي تتلو معروضها: الروجي، الكالامار، القريّدس… أشتري علبة صودا، أذرع المكان في جيئة وذهاب، أرقب الشمس وهي تنزل تدريجا الى مخدعها في حلقة مكرورة، أجلس على مصطبة، أحملق في الأمواج المزبدة وهي تنقض على الصخور، ينتابني القلق، أينها؟ أحاول الاتصال بها لكنها لا تردّ، أضع سماعتين على أذنيّ، تصدح على طبلتيّ أغنية الشاب خالد “..ديدي ديدي ديدي زين دي وا..”
مضى قرن، وأنا على وضعيتي الركينة تلك، خبا كل شيء فيّ، حالما نهضتُ لأنكص أدراجي خائبا رأيت السماء وقد اصطبغت بالأحمر القاني، إنه شفق مدينتي، اعتورتني فكرة أن أكون أنا السماء ولويزة هي الشمس، وها أنذا قد استللتُ من جعبة بكارتها الدم الموعود ! عزائي المحتوم.
المؤلف، وليد طيبي:
كاتب من الجزائر