جولة. المشي يريح. ومهبط الوحي الذي نسجتُ فيه أطيب أشعاري يرحِّب بسَحْبِ حواجز أتراح الحياة عن روحي. جولة. المشي رفيقٌ وطبيب. رمال الموقع الأثري تحمل في تلبُّدِها آثارًا من مطرٍ قريب. الدائرة التي قوامها أعمدة بيضاء متباينة الأطوال على كلٍّ منها أرقام كُتبت بطلاء أسود مشوِّه (24 – 21 – 125 -…) تُحدِق بتمثالٍ (يحمل رقم 129!) يرتكز على قاعدةٍ حجريةٍ مربَّعة. تمثال لكِيانين بشريين متعانقين يرتديان الهيماتيون، وعناقهما حزين، يبثُّ الأسى والقنوط، وتملأ المساحة ما بين التمثال والأعمدة نباتات خرزية الأوراق متشابكة، لا ترتفع عن الأرض إلَّا سنتيمترات قليلة، لونها أخضر غامق. جولة. المشي دواءٌ للمهموم. الجبَّانة تُطلُّ عليَّ بعيونها التسع، وذراعيها اللتين في باطن كلٍّ منهما تسعة أعينٍ أُخَر. استدرتُ. مشيتُ. عينٌ منحوتة تُشبه بئرًا أو إناءً للزهور. نحت مستدير يُشبه قمَّة عمود. بل هو قمَّة عمود، ولكن الزمن جار عليه! أبو الهول مفصول الرأس. أعشق كل شبرٍ من هذه المقابر العبقرية.
توغلتُ في المكان المفعم بأصالة القرون حتى انتهيتُ إلى أجمل أثرين بمقابر الشاطبي الأثرية. منضدة رخامية ثُمانيَّة الأضلاع، في لون الرباب المحلِّق في الأفق الأزرق الذي يمسُّ البحر الذي بيني وبينه شارع الكورنيش، ويبدو أمامي مُرهِصًا لثورةٍ تؤجِّجُها الرياح، وبجوار المنضدة عمود من نفس خامتِها، والنباتات الشيطانية تملأ التراب الذي يحوطهما.
لا أعرف حتى الآن ما الذي دفعني إلى هذه الزيارة المُفاجئة! لعلَّ نفور شيطان الشعر مني طوال شهرين هو الدافع الأقوى لهذه الزيارة. في آخر مرةٍ تجوَّلتُ فيها بين هذه المنح الفردوسية، تدفَّق وحيٌ عجيب لم أستطع لفتنته ردًّا، جعل يبث في ذهني كلماتٍ لا أستطيع إخفاء سعادتي بها، برغم ما قد تبدو عليه من كآبة..
الليلُ معتقَلٌ
وهذي النُّجمُ جمهورٌ
يُلَهِّيه احتراق التَّائهين!
ما هذا؟
كأنَّ وجه حبيبتي، وفستانها الأصفر يتشكَّلان الآن في إحدى عيون الجبَّانة التي تُشبه التليفزيون! تُطِلُّ عليَّ بابتسامتِها التي لم تفارقني منذ أن فارقتني هي قبل عامين إلى بيت زوجها الذي اضطرَّها إلى تفضيله عليَّ أنني.. شاعر! والشاعر في هذه الأيام أرخص من ثمن شقة مساحتها 100 متر مربع!
كان وجهها نداءً لقصيدة جديدة بدأ مطلعها يرفرف في الأفق.
لماذا لا يفرُّ الوعيُ منِّي حين ألقاكِ؟!
بقلم المؤلف محمد أحمد فؤاد