أصداء الحنين

Meniet El Morshed, Egypt

كلما وصلت في نزهتي اليومية إلى عزبة الملح ، القريبة من قريتي منية المرشد، تتوالى دقات قلبي كأنها إيقاع لحن جنائزي .
في مدخلها لازالت أطلال مملكة الحاج محمد عطية ، تحكى قصتها الجميلة ، التي استغرقت ما يربو عن نصف قرن .
لم يتبق من الدكان والظلة سوى أخشاب وأحجار ، توشك أن تختفي في جوف العدم .
هنا كانت محطة للتسوق والراحة من وهج الشمس وقر الشتاء ، يجلس بين روادها الحاج محمد مرتديا ثوبه الأبيض الذي لا يصيبه أدنى أذى ، رغم تعامله مع البقالة والعطارة والخضروات ، ويعتمر طاقية من نفس القماش.
يجذب من قلبه الطيب ابتسامة واسعة مع مولد الصباح ، يظل محتفظا بها ليوزعها على الجميع .
يأتي الرجال من العزب المتناثرة ، فتدور أحاديث حميمة عن السياسة والزراعة والطرائف والمشكلات والأشواق والمعجزات والأوجاع والفشل والموت .
خارج المحل كانت تقف- بصبر- ثلاجة بدائية من الخشب مكتوب عليها : اشرب كوكاكولا ، ممتلئة بالزجاجات المغطاة بالثلج .
عندما يندفع الصهد إلى أعلى حلوقهم ، يتناولون المفتاح الحديدي المعلق بخيط في الثلاجة .
يرتفع صوت فتح الزجاجة كالطلقة ، قبل أن تفور وتتبخر الصودا ، يقذفون بمحتوياتها في أجوافهم ، مستمتعين بالطعم الحريف .
يبدأ التجشؤ والشعور بالراحة ، فيقولون لبعضهم دون تأفف :
صحة .
على بعد خطوات تجرى الترعة إلى العزب ، كالدم في الشرايين . على حافتها توتة تطرح ثمارا بيضاء شهية . يترك الحاج محمد الأولاد يتلذذون بها ، صعودا وهبوطا ، ويتأسف على ما يسقط من ثمار تجرى بعيدا مع الماء.
يشعر بالوحشة لقدوم الخريف ، فتتعرى التوتة وترتجف ، وتختفي الأصوات النحيلة والضحكات الصغيرة البازغة .
يظل الدكان مفتوحا ومليئا بالحركة حتى المغرب، ينقل باقي الزجاجات إلى الداخل ، ويمتطى جحشته الواقفة تأكل طول اليوم ، وترهف أذنيها لما يقال .
خلف المحل يقف الجامع الذي احضر صاحب العزبة مهندسين من القاهرة ، فجعلوه تحفة فنية ، تتردد فيه أنفاس طاهرة ودعوات مشبوبة. كان الحاج محمد يجمع النقود لترميمه وتنظيفه ورعاية مرافقه .
لم يعد ذلك كله موجودا ، وحين أصل إلى المكان يقفز قلبي قفزات اللحن الحزين .
الحاج محمد عطية الأسطوري مرض طويلا ، وبقى الدكان مغلقا بالقفل والدرفيل ، ثم توالى موت الرواد المسكونين بالشغف . لعبت الأيام لعبها الذريع ، فتهدم الدكان وسقطت الظلة . اجتث أحدهم التوتة من جذورها .
لم يعد سوى الخواء والصمت ، والفراغ والنفايات التي تكدسها الرياح . المسجد أيضا نال نصيبه من الإهمال ، فتسلخت جدرانه وتداعى سقفه وأغلق بابه ، فانطوى على نفسه يجتر الهمهمات الحلوة ، وروائح الأحبة العالقة بالحصير .

 

بقلم المؤلف سمير المنزلاوى