لم أدر أبداً لماذا كلما بدأت فى الكتابة تمتد يدى، فى عبودية مطلقة لوسوسة شيطانية غامضة، إلى الريموت. ما سر رغبتى فى تشغيل التلفزيون المزعج أثناء غوصى فى الأوراق والكلمات؟!! يتمزق تركيزى ما بين مشاغلة الشاشة، ومغازلة السطور. أحياناً تعترض رقبتى تشنجاً، لكنى لم أتعظ. مع الأيام، كَبُر محيط الشاشة. فرحت لأن هذا سيمنح الكادرات، ولاسيما فى الأفلام، فخامة مذهلة. لكنى لُعِنت بفيلم يدور فى الصحراء. هواؤه كان لافحاً، أذابنى عرقاً، وأطار أوراقى، وكاد يطيّرنى شخصياً. ونما توجس مسخى، يهمس فى تكرار مرضى، بأن ثمة ثعباناً صغيراً تسلَّل من بين الرمال لما تحت سجادتى. حاولت إطفاء نارى بالحقيقة القائلة أنه ليست كل الثعابين سامة. اندمجت فى كتابة مقال عن الوحدة، والتى أقاسيها، طيلة العمر، وزادت وطأتها مؤخراً عندما ماتت قطتى المسالمة، منزلقة من بين الأعمدة الرفيعة المتباعدة لسور سلم المنور، والتى تُفلِت فيلاً وليس قطة مسكينة. عندما أغمض عينىّ أرى نفسى فوق جواد جامح فى البرية، مع موسيقى راقصة، مفرقعة البهجة، لبيانو أنا عازفه. لكنى عندما أعد من حلمى أجد الأوراق، والأقلام، والتلفزيون. الجهاز بجوار المكتب يعرض عالم الحيوان. وحيد القرن يرمقنى بنظرة ظاهرها الكسل، وباطنها ...اقرأ المزيد
قصص قصيرة
“الطريق” سفر المرور بين التكوين واليقين
في كل مرة تمر علي دار القابلة في مدخل العمار، تحتك بحائطها المتبقي به آثار دهان بالجير عفا عليه الزمن فلم يُبق منه إلا ذيل سفينة ومقدمة طائرة وحج مبرور وذنب مغفور، وتقترب أكثر من الحائط فتترك أحرف مشنة أعواد الحناء أثراً متصلاً على الحائط.
“وقف …
أي حركة قول علي روحك يا رحمن يا رحيم ”
ولم يتوقف المتحرك عن الحركة!! ، ومع هذا لم يكلفه ذلك حياته، سيعقب المحذر بعبارة معهودة:-
” انت لساك ماشية…
الله يكون في عونهم
أنا عارف مستحملينك إزاي؟؟ ”
كانت الحركة بطيئة، والأرجل الحافية المشققة تضغط الأرض في وهن، والجلباب الأسود المرقوع بتدلي فيمسح خلفها الطريق، وبرقع الحياء الشفاف يلتف حول مؤخرة الرأس والكتفين ويمتد حتى أسفل الخصر، ومشنة أفرع الحناء المشقوقة تعلو حواية صنعت خصيصا لتخفيف حمل المشنة علي الرأس الصغير المستدير الذي لم يكف عن الأخذ والعطاء طيلة الطريق.
– يا خالة فهيمااااااااااااااااااااااااااااا
– عمتك زمزم عايزاك … بسرعة شوية
هي تكره عمتها زمزم كثيرا إنها لن تحتاجها أبدا إلا في حالة احتجاز الكلب لأحد لصوص الخيار. السيناريو معروف جيدا؛ ابن الدهشوري نزل يسرق خيارا، ...اقرأ المزيد
وطن أصبح بعيد
كل خطوة كنت أخطوها بعيدا عن الوطن،كنت أخطوها من أجل رفعة اسمه عاليا،عندما حصلت على منحة دراسة في فرنسا،السعادة كانت تملأ قلبي،لقد جاءتني الفرصة لرؤية العالم،لقد جاءتني الفرصة لصنع شرف وطني في كل مكان أقصده،كنت أتخيل صورتي و أنا أتسلم جائزة نوبل،و الآن،بعد أن أصبح حلمي حقيقة،أريد العودة الى أرض الوطن،أريد أن أترك المعامل و عالم الكيمياء قليلا،و أحظى ببعد الوقت الجميل مع الوطن الذي أنجبني،الذي من أجله طورت عبقريتي،و الذي من بيئته الجميلة بنيت أخلاقي،عندما كنت أجلس ذات يوم على الكرسي المتحرك أقرأ بعض الصحف الفرنسية جاءني ابني عمر و قال لي:
-أبي،متى سأرى وطني؟متى سنذهب اليه؟
-غدا،ان شاء الله سنركب الطائرة،قم بتحضير ملابسك.
عدو عمر سريعا نحو غرفته،و دموع السعادة تتساقط من عينيه،ثم جاءتني زوجتي مروة مبتسمة و قالت لي:
-لقد قمت بتحضير جميع أغراضنا و ملابسنا،كم أنا متلهفة لرؤية مصر.
قلت لها مازحا:
-ألستي مغربية يا مروة؟!
مروة:
-أنت تعرف يا هاشم أن الوطن العربي من روح واحدة و أصل واحد.
أنا ضاحكا:
-أعرف،انني أمزح معك،هيا بنا نخلد الى النوم لنستيقظ مبكرا.
عندما كنت أحاول النوم أخذت أتذكر الأيام الجميلة التي قضيتها في الأقصر بين آثارها العريقة،و الجيزة التي بها الأهرامات وأبو الهول و الآثار ...اقرأ المزيد
مرآة المدينة
مدرس التاريخ قال لنا إن الساحات كانت رمزا للموت، وأخي الشاعر يقول “تعرف المدن من ساحاتها”. أول مرة شاهدت فيها شابا ميتا كانت داخل محيط ساحة السبع بحرات، وبجانبه دراجته النارية نائمة على جنبها الأيمن تذكرت حينها مدرس التاريخ، وعرفت أن البلدية لم تضع شاخصة مرورية تدل على الساحة.
تسميتها تدل على سبع نوافير فيها مملوءة بالماء، أحيانا تكون معطلة، وهي جزء من محاولات محاكاة مدينتنا لدمشق وحلب حيث توجد في كل منهما ساحة تحمل نفس الاسم، ولكن تنقصها عنهما الرمزية المالية والأرستقراطية فلا يوجد على أطرافها ولا في المدينة كلها فرع لمصرف حكومي أو خاص.
في الصيف يهرب الناس من سجون الشقق الاسمنتية الضيقة إلى “السبع بحرات”، إلا أنها ليست مكانا مناسبا للقاءات العشاق فأهل مدينتنا محافظون، ومن ابتلي منهم بالعشق عليهم أن يستتر خلف الأبواب والنوافذ المغلقة بإحكام، أنا مثلا أقصى ما استطعت فعله هناك هو تبادل الصور والأغاني، وأخذت قبلة “افتراضية” من إحدى الفتيات الظاهرات عندي في قائمة “البلوتوث”، والتي ربما تكون إحداهن هي ذلك الرجل الأربعيني البدين الذي يسحب نفس “النارجيلة”، ويضحك بصوت عال.
تخلفت عن الخدمة العسكرية، وكلما أردت الذهاب إلى “الشام” كنت ...اقرأ المزيد
الجاكيت
عندما كنت طالبا في إحدى الثانويات بمدينة عدن كنت أرى نفسي في المستقبل كرجل يرتدي البدلة الرسمية الأنيقة (جاكيت) ويحمل حقيبة يد ويضع نظارة شمسية فخمة وربما تسريحة شعر مميزة! لم أكن أعلم ماذا سأكون لكن كانت صورة مرحة وكنت استمتع بتخيلّها.
عندما دخلت جامعة عدن اخترت التخصص الذي اختاره معظم زملائي، خلال سنوات الدراسة كنت أجمع المال كلما أُتيحت لي الفرصة وذلك حتى أتمكن من شراء البدلة الرسمية التي أحلم بها، وما إن تخرجت من الجامعة حتى أسرعت إلى أفخم محل لبيع البدلات الرسمية وحققت حلمي.
شعرت حينها أني قد دخلت في مرحلة جديدة، مرحلة أن أكون شخص مهم، شخص له حضور ومستقبل واعد، وكنت مؤمن تماماً أن البدلة الرسمية (الجاكيت) جزء كبير من هذه المكانة الاجتماعية، بل هي كل تلك المكانة الاجتماعية والمستقبل الواعد.
ارتديت البدلة فور عودتي إلى المنزل، وكم كنت سعيدا بها! وكم وقفت طويلاً أمام المرآة! وكم أخذت من الصور التذكارية فيها، أنا الآن على أعتاب النجاح! يا للروعة! وبعد مراسيم الابتهاج تلك وضعت البدلة بالدولاب لتنتظر، وأنتظر أنا اللحظة المناسبة لارتدائها والتباهي بها.
مرّ الأسبوع الأول، ثم لحقه الشهر الثاني، ...اقرأ المزيد
دهب
اتجهت دهب للمدينة التي حصلت على اسمها منها , أطلق عليها والدها اسم مدينته المفضلة التي كان يهرب دائما اليها
اعتادت و هي صغيرة أن تنتظر عودته المفاجئة من هناك حاملا اليها هدية ما , عقد مصنع من قواقع البحر , صخرة نحت عليها وجهها , فستان طرزتة بدوية بخيوط ملونة
كما اعتادت عودته المفاجئة , اعتادت أيضا رحيله المفاجئ , الى أن رحل يوما و غاب للأبد
دهب.. ما سر هذه المدينة التي رحل اليها والدها و أطلق عليها اسمها
تخبرها والدتها أنه يذهب هناك لأنه يحتاج الى أن يبقى وحيدا لهذا لم يزرنه هناك أبدا و لهذا شعرت دائما و كأنها مدينة بعيدة
حتى بعد أن كبرت و حكى لها أصدقائها عن رحلاتهم الى شرم الشيخ القريبة جدا من دهب , بل أن بعضهم أخبرها أنها مدينة صغيرة لا يوجد بها شئ يستحق الهروب اليه
لم يحطم من سحر المدينة سوى كلام والدتها الذي كانت تنفجر به غاضبة اذا سالتها عنه , في كل مرة تنفجر بقصة أكثر ايلاما , والدك المجنون مات تائها في جبل ما او ربما مات غريقا و دعمت دائما حكاياتها ...اقرأ المزيد
بائعة الحظ
انتشر الخبر المُريب بسرعة البرق في أرجاء قرية تافوغالت الهادئة، و توالت ردود الفعل تجاه الحدث كسيل جارف. أكّد بعض الأشخاص الخبر بثقة كبيرة و دافعوا عنها باستماتة. بينما نفت مجموعة أخرى الخبر و أخذت تكذب و تتهم بلا هوادة.لكن هذه الأحداث كلها جعلتها حديث كل لسان! فبعد مجيئها منذ يومين فقط، أصبح الكل يتكلم عنها صغارا و كبارا! إنها المرأة العجوز التي حلت بالقرية في ظرف وجيز.قالوا أنها إنسانة طيبة تبيع الحظ بثمن بخس، لأنها تمنحك الكمية التي تريدها. كيف تفعل ذلك؟ لا أحد يعلم السر حتى الآن.
كانت تمشي بهدوء قرب إحدى المزارع الجميلة بالقرية، تحت أشعة الشمس الدافئة الذهبية.تلبس ثيابا رثة داكنة اللون و تحمل عقدا قديما في يدها، تنصت للعصافير مستمتعة بنسائم الربيع التي تهب. تلتفت يمنة ويسرة كأنها تبحث عن شيء ما. وجهها غريب و قد حفر الزمن عليه بحرية حتى مسح ملامحها تماما. أخذت تتجول بعصاها في المكان وعلى محياها ابتسامة خفيفة تخفي الكثير من الأسرار أو ربما ألما عميقا دفينا لا يعلمه أحد. تضرب بيدها في طبل صغير وتنادي بصوت متقطع: ” حظ للبيع يا اهل القرية !”
يلمحها أحد ...اقرأ المزيد
المليون
“صحفي فاشل.. آخر حروف تلقتها أذناي من مديري قبل أن أحصل على قرار بفصلي من العمل، حروف مسموعة تبعتها كلمات مكتوبة، بأني شخص مثالي لا يعيش الواقع..”
ضحكات خفيفة تعلوها عيون محدقة لمائتين من كبار الشخصيات الأدبية الذين يحيطون به، رجل أشيب الشعر يرتدي حلة أنيقة ووردة زاهية، ويستعد لتوقيع الطبعة العاشرة من كتابه (المليون)..
“منذ صغري ولا أسمع سوى كلمة (مجنون)، كنت أدون كل شيء أراه وأسمعه، الكلمة والحركة.. وحتى الأنفاس، كنت أكتب وأقرأ فقط، حتى إذا نفذ الورق، كتبت على جدران غرفتي، وكثيرًا كنت أتلقى ضربًا مبرحًا، ولم أكترث..”
أثارت انتباهه يد ارتفعت، وتبعها سؤال “وكيف جاءت فكرة الكتاب؟”
رد عليها بابتسامة رزينة، وأشار بإصبعه قائلًا: “بنظرة إلى ذلك المكان..”
قرأ عبارات الاستفهام على وجوه الجميع، فأجاب على نظراتهم قائلًا..
“حضرت إلى الإسكندرية بعد إقالتي، كنت بحاجة للانزواء بنفسي بعيدًا عن أهلي، أشعر بالفراغ يملأ أرجاء حياتي، لا عمل ولا زوجة ولا هدف، أغلقت هاتفي وسرت قليلًا أمام البحر، تاركًا أفكاري تتطاير مع ذرات الهواء..
أسير أملًا في العثور على معنى لحياتي، حتى وجدت أمامي مكتبة الإسكندرية..”
-وماذا في مكتبة الإسكندرية؟ قالها أحدهم..
اقرأ المزيد
حصان المدينة
الهواء رطب، تحت معطف جلدى مغطاة رقبته بالفراء يتحرك جسدها فى نشاط دون الإهتمام ببرد الشتاء والوحل الذى خلفه المطر على الطرقات. توقفت على جانب الطريق، السيارات لا تمر، سارت نحو مقعد رخامى ندى، أخرجت من بين صفحات الكتاب الذى تحمله فى يدها ورقة، وضعتها فوق المقعد وجلست متصالبة الساقين.
تساقط رذاذ خفيف، خبأت الكتاب بين جسدها والمعطف، وإنتظرت وصول سيارة. الدقائق تمر، المطر يشتد والسيارات لا تأتى، ذهبت سيراً على الأقدام محتمية بشرفات المنازل.
المحلات مغلقة، الناس يحتمون بدفء بيوتهم، وحدها تسير تحت المطر ورجال البوليس الذين يحتمون بعرباتهم المصفحة التى تجوب كل مكان فى المدينة.
بعد نصف ساعة وصلت إلى الجامعة بمعطف مغسول وحذاء مغطى بالوحل. وقفت مع حشد من الطلاب أمام الكلية إلى أن حان موعد الإمتحان. دخلت وزملائها إلى القاعات، وضعت القلم فى ورقة الإجابة، لم ترفعه إلا بعد إنتهاء الثلاث ساعات زمن الإمتحان.
توقف المطر، انحسرت الغيوم وكشفت عن زرقة صافية. أناس بأصوات مرتفعة يأتون من كل حدب وصوب، يتوافدون فرادى وجماعات وكأنه يوم الحشر، صيحاتهم تزداد إيضاحاً كلما إقتربوا من الجسر العابر ...اقرأ المزيد
شيفون أبيض
اختفى الأتوبيس بعد أن غادر آخر سلمة من سلالمه، كل شيء اختلف تماما، فجأة تظهر الجِمال والخيول، لا أثر لعجلات على الرمال التي يدوسها بقدميه، والتي تمتد أمامه حتى شاطيء البحر، في منتصف المسافة بينه وبين البحر فاصل طولي بأكواخ خشبية أسقفها من جريد النخل, يقترب من أحد الأكواخ ليجدها من الداخل مبطنة بخشب قديم وبالكاد يكون متماسك، يطرق الباب فلم يستجب أحد، الفضول يطن كنحلة في رأسه، يعثر على نافذة قصيرة مفتوحة بترحاب في الجانب الأيسر فيدخل منها، محتويات السكن مبعثرة في كل مكان، يتوسط تلك الفوضى كرسي عليه عجوز نائم في هدوء، ملقى على الأرض زجاجات ويسكي، تدفق الدم يزداد في عروقه وجسده يلفظ عرق بارد، تردد للحظات في أن يوقظه، ابتعدت خطواته عن العجوز؛ ثم سحب زجاجة وخرج من شباك في جانب آخر مفتوح، ابتعد بضعة خطوات وقف ليستطعم مرارة الويسكي على مهل، يتأمل تفاصيل المكان وهو يتنفس النسيم..
ما إن وصل إلي الشاطيء؛ إلا و وجد نفسه حافي القدمين، لمست باطن قدميه الرمل المبلل، داعبت أنفه رائحة مسك مخلوطة بهواء البحر، بجانبه ممر صخري، بعدما انتهى من عبوره ...اقرأ المزيد