مدرس التاريخ قال لنا إن الساحات كانت رمزا للموت، وأخي الشاعر يقول “تعرف المدن من ساحاتها”. أول مرة شاهدت فيها شابا ميتا كانت داخل محيط ساحة السبع بحرات، وبجانبه دراجته النارية نائمة على جنبها الأيمن تذكرت حينها مدرس التاريخ، وعرفت أن البلدية لم تضع شاخصة مرورية تدل على الساحة.
تسميتها تدل على سبع نوافير فيها مملوءة بالماء، أحيانا تكون معطلة، وهي جزء من محاولات محاكاة مدينتنا لدمشق وحلب حيث توجد في كل منهما ساحة تحمل نفس الاسم، ولكن تنقصها عنهما الرمزية المالية والأرستقراطية فلا يوجد على أطرافها ولا في المدينة كلها فرع لمصرف حكومي أو خاص.
في الصيف يهرب الناس من سجون الشقق الاسمنتية الضيقة إلى “السبع بحرات”، إلا أنها ليست مكانا مناسبا للقاءات العشاق فأهل مدينتنا محافظون، ومن ابتلي منهم بالعشق عليهم أن يستتر خلف الأبواب والنوافذ المغلقة بإحكام، أنا مثلا أقصى ما استطعت فعله هناك هو تبادل الصور والأغاني، وأخذت قبلة “افتراضية” من إحدى الفتيات الظاهرات عندي في قائمة “البلوتوث”، والتي ربما تكون إحداهن هي ذلك الرجل الأربعيني البدين الذي يسحب نفس “النارجيلة”، ويضحك بصوت عال.
تخلفت عن الخدمة العسكرية، وكلما أردت الذهاب إلى “الشام” كنت أغمز لموظف الحجز، وأقول له: سبع بحرات فيطلب مني خمسين ليرة إضافية. بعد أن أنهيت الخدمة العسكرية فهمت اللعبة؛ عند نقطة الشرطة التي تسبق الساحة فحص الشرطي جميع وثائق المسافرين، وأغراضهم، وقبل أن ينزل سأل السائق: كم واحد عندك “سبع بحرات” فمد السائق يده، وكفه مغلقة، وعندما صارت فوق يد الشرطي فتحها فأغلق الشرطي كفه ثم قال السائق: سبعة.
نزل الشرطي، وهو يغني ساخرا: كنا سبعة …. عالسبع بحرات.
عندما شهدت ساحة السبع بحرات أول مظاهرة ضد السلطات تلون بلاطها باللون الأحمر في نفس اليوم. وبعد خروج المدينة كلها عن سيطرة الدولة أصبح الطيار يزورنا كل فترة، ويلون الساحة باللون الأحمر على طريقته، ينتظر حتى يتجمع العشرات ثم المئات، يبهره منظر الساحة التي تظهر من أعلى ارتفاع كصحن تجمع النمل فيه فيعاود تلوينها بالأحمر القاني.
قبل ثلاثة أيام وضع رجلان ملتحيان صندوقا خشبيا في وسط الساحة، ثم حبسوا رجلا متوسطا في العمر بداخله، وبعد صلاة العصر جابوا به شوارع المدينة، وبصق عليه الأطفال والسفهاء.
اليوم، وأنا أمشي باتجاه الساحة لاحظت تجمع الناس، الساحات مرايا المدن، تذكرت كلام أخي عندما رأيت الكثيرين من حولي مهرولين، يشدهم الفضول والخوف معا.
وسط الفضوليين والخائفين وقف رجل في أواخر الخمسينات، قدماه ملتصقتان بالأرض، جسمه كله منتفخ، ووجهه شاحب، ويداه مصلوبتان، وجهه مألوف عندي، كان ينظر إلي بعينيه المرعبتين، وكأنه يعرفني؛ أول مرة أرى ميتا يقف على قدميه، تشجعت، واقتربت منه أكثر: كان مدرس التاريخ.
بقلم المؤلف محمود الحسن