متى بدأت قصتي مع شمشون؟ لا أستطيع التحديد على وجه الدقة, فقصتي معه مرتبطة بشباك غرفتي الراسخ في مكانه منذ ولادتي, والذي لطالما كان مكاني المفضّل للشرود. أقف خلفه بينما أشرب كأس الحليب في الصباح الباكر, وأتسلّى بمراقبة العابرين, أولئك المبكرون على الحياة والذين هم غالباً طلاب وموظفون يمشون بخطوات ثقيلة في الشوارع, التي لا يزاحمهم عليها, إلّاعمال النظافة و(النبيشة) الذين يأتون على دراجاتهم الهوائية لجمع الفوارغ البلاستيكية من حاويات القمامة. في المشهد ذاته يعبر أحياناً الرياضيون بخطواتهم الحيوية, متسببين بالإخلال بتوازن المشهد الصباحي المنذور للكادحين. وخلف النافذة ذاتها لطالما حلا لي الوقوف بينما أسرّح شعري قبل الخروج من البيت وكذلك وأنا أتحدث على هاتفي الخليوي أو أشرب القهوة عصراً.
في لحظة ما من طقس النافذة اليومي تسلّل شمشون إلى يومياتي وأصبح صديقي. رغم أن مفردة صداقة ليست ملائمة تماما ً لأننا لم نتبادل الحديث يوماً كصديقين, لأنّ شمشون لم يكن من ذلك النوع الذي يحبّ الكلام. اكتشفت ذلك يوم قرّرت أن أشاركه فطوري, ولففت له عروسة من البيض المسلوق والبندورة, وحين وصلت إلى مكان جلوسه على حافة الرصيف قرب حاوية القمامة, انحنيت قليلاً ومددت العروسة نحوه, لكنّه تابع الحملقة بأصابعه الخارجة من شقوق كفين صوفيين مهترئين يغطيان نصف أصابعه. وضعت العروسة, الملفوفة بكيس, قربه ومشيت, دون التفاتة إلى الخلف, كي لا يعتقد أنّي من أولئك الذين ينتظرون رد الجميل بكلمة أوابتسامة.
حاوية القمامة الخضراء, المجاورة لمديرية سياحة المدينة والمواجهة تماماً لنافذتي نادراً ما تكون شاغرة, فدائماً ثمة من يرمي أكياس القمامة فيها أو يبحث عن الفوارغ ضمنها. ورغم أن زوارها يتكررون كلّ يوم إلّا أنّ ذاكرتي لم تحتفظ بوجه أحد منهم, باستثناء شمشون, الذي كان يمضي فترة الصباح جالساً قرب الحاوية, بعد أن يبحث فيها عن شيء لا يعثر عليه. ربما هذا ما جعله يضيء أمام عيني فهو مثلي يبحث عن شيء لا يعثر عليه, لكنّه لا يتوقف عن البحث. ولعلّه لا يعرف عما يبحث لذا يتعذر عليه العثور على أي شيء. وربما لأنّ شمشون كان فريداً بشعره الطويل الملفوف كما الخواتم حتى ليبدو مجدولاً بعشرات الجدائل الصغيرة, ولحيته الشعثاء الطويلة, ومعاطفه التي تسربل جسده الضخم, ويرتديها فوق بعضها البعض فيبدو عملاقا” هاربا” من أسطورة, ولذلك كان اسم شمشون(بطل من العهد القديم اشتهر بقوته الهائلة) مفصّلاً على مقاسه. أما لقب الرفيق شمشون فحصل عليه يوم رأيته جالساً في مكانه المعتاد وقد وضع ساقاً فوق ساق وفي حجره جريدة يحملق طويلاً في كل صفحة منها, ثم يقلبها بعصبية كما لو أنّ ما قرأه لم يعجبه. مشهد كوميدي صرت لاحقاً أؤديه بينما أقرأ الجرائد بالطريقة المتعالية والمشمئزة ذاتها.
في أحد الصباحات ورغم أنّي لم أره بينما أشرب كأس الحليب خلف النافذة, وضعت عروسته, التي باتت طقساّ يومياً, في حقيبتي وخرجت. كان مكان شمشون مازال فارغاً. لكنّ الضجيج الذي تسببّت به جمهرة من الناس في النفق الموجود على بعد أمتار قليلة دفعني لأندس بينهم لأرى سبب تجمعهم. وقفت على أطراف أصابعي ومدّدت رأسي بين رؤوس الواقفين.
هناك قرب الجدار, قبل نهاية النفق بخطوات, كانت جدائل شمشون الطويلة مسجاة قرب وجهه, وكان يبدو نائماّ لولاّ بركة الدماء التي كانت تحيط به.
شهقت وقلت لجاري الذي كان بين الواقفين: هذا صديقي شمشون! فنظر إلي بأسى وقال: كان صديقي أيضاً.
المؤلفة، ريمه راعي:
كاتبة وصحفية سورية, صدر لي مجموعتان قصصيتان: -و أخيرا ابتسم العالم – القمر لا يكتمل