كانت الساعة تشير الى العاشرة والنصف ليلا وكان حنين وحده يقف بشارع معتم وحوله حقائبه، شيء غريب كان يجذبه إلى مكان محدد ومقصود، العمارة التي كانت تشعره بالألفة والراحة، كان مفعما بمشاع ساخنة، وعبر المدخل أمد رأسه ..
هاهو الآن في قلب البيت يجر أحاسيسه كخيط من شعاع ليرتمي في حضن حياة ويغوص في نهر الأحلام، أما هي فقد كانت تبحث فيه عن ذلك الجانب الوديع من شخصيته كانت تعرف انه سيعود يوما ما وأنه لا يستطيع الاستغناء عنها، لذلك كانت شديدة التفاؤل والانشراح، فتماوجت بين ذراعيه وأحست أن جاذبية الحياة قد ازدادت سرعتها لما التقت الشفاه في قبلة تحمل حرارة الاشتياق والحنين ..
في الصباح كانت تتكئ بأحد مرفقيها على المنضدة شابكة أصابعها على بطنها، نظرت في عينيه مباشرة والسعادة تغمرها، لم تستطع أن تحبس ابتسامتها وهي تتأمل وجهه الجميل ثم اغرورقت عيناها من فرط إحساسها أنها ليست بمفردها، وكم كانت تحب وجوده الذي يجعلها تطلق فيه مشاعرها وأحلامها بكل شجاعة، وهكذا بدأت تنسج خيوط هذا الحلم الجميل متيقنة تحقيقه لكن سرعان ما تبددت أمنيتها وانهارت لبناتها على شفا حفر من التعاسة والحزن العميق والصدمة القوية حين نظر إليها بإمعان بعدما سحب نفسا عميقا من السيجارة قبل أن تشرد نظراته برهة وسط دوائر الدخان ويلوذ بالسكون ليبقى الجواب بين حوافي شفتيه كي لا يوقظ جرحا حفرته الأيام.
دقائق مرت، اقترب منها، جلس بجانبها، همس في أذنيها أنه يحبها لكنه لا يستطيع الزواج منها لأنه يعيش في دوامة الإحباط والإخفاق وقتامة الواقع اليومي ..
ساد صمت رهيب بينهما، وقبل أن تطل أشعة الشمس أسرع بحزم حقيبته مغادرا المكان من جديد، فأحست ببركان يهز جسمها تاركا آثار اليأس والإحباط على جبينها، ثم حاولت أن تلملم ما تبقى من أسئلة تائهة لكن صمت الجدران حال دون ذلك فأطلت من النافذة، مسحت الشارع بعينيها، لا أحد، فغذت صامتة منعزلة حيث النكران والجحود ممن أحبته ووهبته زهرة حياتها وعطر شبابها، ثم أطلقت صرخة مدوية كأنه الرعد في ليلة شتوية وأسفاه …
أما هو فقد امتلأت عيناه دموعا بعدما حول نظره إلى نافذتها ثم استأنف سيره تخترق قلبه الصغير سهام الحيرة.
وعلى عتبة الرحيل، وتباريح السفر، انكسرت مرآة الروح في صباح خريفي، حيث أوراق شجرتهما تلاشت في زوايا الصمت، مدرجة بالكآبة
بمتحف الزمان فلا ابتسامات الآن تعلو الجبين، وحين يمتد الليل على كتف التنهيد، يحلقان في وهج الحنين، مستبيحان دمع المقل، ناثران حزنا معتقا حيث دلو الحرف ما عاد يصل أعماق القصيد، الذي يختزل أحلى الأطياف في متاهات الذاكرة، لذلك اليوم البعيد من القلب والروح، اللذين هاجرا مواسم الأزهار، إلى ضفة خارج الحياة
بقلم المؤلف محمد محقق