بنت البندر أرضٌ بور، انقطع حبلها بعد وفاة طفلتها، وزوجها كحبات مطر. يعطيها دمية ابنتها المعطرة، يتحسس خصلات شعرها إلى أن تنام كل ليلة. تتذكر تلك المرة التي التقطت فيها روحها بصعوبة؛ التقط زوجها ثعبان ميت رمته عليها أمه، لأنها متيقنة أن زوجته “مشاهرة”. عندما احتضنت ابنتها تمكن منها اللون الأزرق. قربتها من وجهها وشمت رائحتها، أمسكتها من ذقنها المتيبس. مسحت دموعها من على خد ابنتها… واشتد عويلها حين أخذتها جدتها لتغسلها، قائلة “بنت موت يا عين ستها”.
“أنتِ متشاهرة ولازم تشقّي الجبانة”، مضت عدة شهور ولم تحبل. تلك الكارثة دعتهن لإلقاء ثعبان ميت في حجرها، وقتل كلب في منطقة الجزيرة المهجورة لتمر فوقه… واليوم عليها الذهاب إلى المقابر، لابد أن ترى كفن ابنتها حتى تثمر. وافقت على العرض دون أن تؤمن بتحلل طفلتها، هي شهيدة، ماتت في المشفى المتهالك.
مشت معهم وسط الحقول. رأت خيال المآتة ينعق مع الغربان، ونساء لهن أعين البوم، يرتدين الأسود، وقفت في قلبهن بجلباب أبيض مزين بالتوت. الشمس فوق رؤوسهن، والفراشات فوق “الأناية”، والبوص يحد الترعة بجانبها.
وصلت إلى المقابر، وجدت قاض الغربان فوق الجميزة العملاقة، وجديان سوداء فوق تلك القبور، وزرعات صغيرة بجانبها ومقامين لأولياء الله الصالحين. خفق قلبها وضاقت أنفاسها، لكنها تصبرت. مشت بين القبور إلى أن أشارت إحداهن على قبر طفلتها. جلست. أزاحت واحدة باب القبر، لم تر ظلمة بالداخل، كان الظلام خلفها. رائحة عفنة أفجعتها. نبشت ابنتها بجنون. سمعت صوتها يقترب. وجدت كفنها متآكلا. قربت الكفن من وجهها؛ ولم تجد ريحها. قربت يدها من ذقنها المتآكل ومسحت دمعة قديمة. صرخت: يا رب لماذا لا يأتي المسيح ويعيد إلي ضحكتها؟ أين عصاة موسى تلدغ هذه الحيات؟ أين كرامات الأولياء؟ يا رب لماذا حجبت عنا المعجزات؟ صرخت فاشتد نعيق الغربان. صرخت أكثر ولم تحتمل سماع صوت من حولها. حاصرتها النسوة بضحكة صفراء. سمعت اسمها من بعيد “سمية لنرحل من هنا”. احتضنها زوجها وسط تلك العيون، وأعطاها دميتها المعطرة.
رحلا عن هذا المكان، ولم يعودا مرة أخرى، ولن تعود تلك المرأة حتى لو عاد الزمن. كنت أنا تلك المرأة.
المؤلفة، أميرة أيمن بدوي:
قاصة مصرية، شاركت في تأسيس جماعة “المناقشة” الأدبية. تعمل في مجال كتابة القصص التربوية للأطفال.