بحجم قطعة سماء

Bayt al-Suhaymi, Cairo, Egypt

تتساقط الشمس فوق رأسها شظيات حارقة، وينصهر أسفلت الطريق تحت قدميها، تلتصق به الخطوات فتتحرك بالكاد. البنايات على الجانبين تضغطها كقوسين تحتبس بينهما حتى تصير مجرد حرف مضغم لا يبين له معنى. كل ما يحيط بها بات جملا مبتورة لا تثير في روحها أي معاني بقدر ما تثير من علامات استفهام وتعجب.

كلما احتكت بها خطوات واقعها الثقيلة التي تسعى للهرب من وطأتها بالتنكر في صورة حجر صلب له سطح خارجي خشن ذو قدرة على المقاومة والصد، كلما علق بسطحها الخشن ذاك بعضا من قذارة تلك القدم الكريهة برائحتها العفنة، وانسدت مسام روحها بالأدران وغدت درجة أكثر حلكة من السواد. ما لم تضعه في الحسبان يوم راهنت على الحجر وخسرت الرهان هو احتمال أن يكون من نصيبها دونا عن كل الأحجار، حجر حمام منسي في ركن رطب مليء بالعفن!

تسعى الخطو حثيثا إلى المكان الذي تنفك فيه الأقواس وتتضح لها المعاني. تستمر في طريقها حتى يتبدل ملمس الأرض تحت قدميها. عوضا عن حرارة الأسفلت التي تحرق نعل الحذاء وتخترقه، تشعر قدمها بوخز تعرجات وبروز الأحجار التي ترسم وجه الشارع العتيق. مع كل خطوة تخطوها في المعز، تبدأ الأقواس التي تحاصرها في الاتساع قليلا، وتبدأ أحرفها المدغمة في الانفكاك والوضوح. تتساقط علامات الاستفهام والتعجب، يطرق مسمعيها معاني مهموسة تبحث عن كلمات تحل في جسدها روحا، وتفترش الطريق أمام عينيها نقاطا كثيرة ممتدة مفتوحة النهاية، تدعوها بغواية تجاه مقصدها الذي تسعى إليه.

تقترب، تنحرف يمينا إلى حارة الدرب الأصفر، وتقترب أكثر. المدخل الضيق المظلم المفضي إلى الصحن الأمامي لبيت السحيمي يشعرها أنها تعبر من الرحم وتخرج في لحظة ميلاد جديد في كل مرة تطأ قدماها المكان. ترتفع نظرتها للأعلى حيث المشربيات بزخارفها المتقاطعة تتماهى مع تقاطعات وحيرة المعاني بداخلها. على الجانبين يمينا ويسارا العديد من الأبواب، كلها تدعوها للدخول لتفقد نفسها داخل دهاليز البيت الرطبة. “كتب السعد على أبوابها ادخلوها بسلام آمنين”. تمرر أطراف أناملها على غواية الباب وتبتسم. “ليس هذه المرة”، تهمس وهي تودع الحروف لتقودها خطواتها أبعد تجاه الداخل.

تريح نظرتها على التختبوش لوهلة دون أن تجلس هي، قبل أن تعبر الصحن الأمامي وتلج الصحن الخلفي للبيت. تحاول تجاهل الطاحونة، فبها ما يكفي ويفيض دون أن تلتفت لما يذكرها بالواقع الخارجي. تتجه مباشرة تجاه الركن القابع أقصى يسار الصحن حيث القبة ذات الزجاج الملون ببهجته واشراقه. تحيط أشجار النخيل واليوكا والجهنمية بالقبة من كل جهة. تتفادى الأطراف المدببة والأشواك بحرص حتى تلج منتصف الفراغ القابع أسفل القبة تماما. ترفع رأسها لأعلى وتبتسم. تسبح أمام ناظريها ذرات صغيرة متراقصة محمولة وسط الأشعة الملونة الدافئة التي تخترق زجاج القبة لترسم أشكالا أسفل قدميها. في زاوية كل عمود من الأعمدة الأربع التي تحمل فوق رأسها القبة الملونة، ارتكن برفق عش صغير قديم ليمامات استقرت هنا واستكانت قبل أن تنمو أجنحة صغارها وتطير بعيدا. أعتمت الألوان بعض الشيء بفعل ظل صغير استقر فوق القبة وصاحبه صوت يمامة تغوي روحها بالتحليق خارجا، عوضا عن غواية أبواب الصحن الأمامي بالدخول. تطير اليمامة فتحلق معها كل المعاني الحبيسة بداخلها. تنساب نظرتها مع الأحمر والأخضر والأصفر والأزرق وهي تحدق بالسماء التي تكسرت شظايا بازل ملونة من خلال زجاج القبة، قبل أن تنساب روحها في براح اللون لتصير بحجم قطعة سماء.

 

بقلم المؤلف إيناس محمد علي التركي