نداء الحياة

Classroom in Tazakht, Morocco

دخلَ المدرسة من البوابة الصغيرة ثم عرّجَ على جناح الإدارة. لَمَحْتُهُ قادما صوب حجرة الدّرس عندما تبيّنَ له غياب المدير. من خلفي يهمس أحد التلاميذ: هوذاك والد زياد! أستقبله بحفاوة، فيتمتم بكلمات قليلة و صوت خفيض؛ تماما كابنه لمّا يردّ على أسئلتي. أب خمسيني، قصير القامة، متين البِنية لكن كسير الطّرف! بصوت تُمازجه بُحّة حزن استفسرني عن موعد قدوم رئيس المؤسسة، و رغبته في الحصول على انتقال لابنه في أقرب وقت ممكن. أوشكت أن أجيبه: غير ممكن! لكن لا سلطة لي في هذا الأمر. تكلّفت ابتسامة و رددت عليه: سيدي، كيف تحرمنا من شمعة تُضيء عتمة هذا الفصل؟ هذا ظلم سيدي و لن نأذن لك بذلك! أشرق وجهه قليلا فأجاب بذات الصوت الذي تُمازجه بُحّة: ما باليد حيلة أستاذ! تزاخت* قرية جميلة لكن حقول الورد التي تجذب السياح من بقاع مُختلفة هي نفسها تدفعني لمغادرة المكان! أنا و زوجتي نُعاني من هذا الربو اللعين في فترات مختلفة من السنة و تحديدا إبان موسم جني الورود. ثم أضاف و الغصّة تحبس أنفاسه: لقد قضيت مع والدي عمرا مديدا في تهيئة الأرض، و كرّسنا الجهد و بذلنا المال لنصيّرها مزرعة مترامية الأطراف تليق باسم العائلة المعروف هنا لدى القاصي و الداني.. لكن في غمرة فرحنا بأول موسم قطاف و على حين غرة، انتكس والدي.. وجدناه ميتا بين شجيرات الورد..الربو اللعين أنهى حياته!

اعْتُقِلَ لساني أمام هذا الإفضاء، و إذ لاحظ الرجل تأثّري الشديد، ربّت على كتفي ثم أضاف بنبرة تُغالب الحزن: أرض الله واسعة أستاذ! إن ضاقت بنا هنا ففي الجنوب السّعة و الرّحب! لقد رتّبنا كل شيء و سننتقل للعيش في مدينة زاكورة**. مرحبا بك في أي وقت!

داهمني جمود غريب حالما انصرف، و فضّلتُ الوقوف لدقائق عند مدخل حجرة الدرس، بدل مُواجهة تلامذتي بجبين مُقطّب ووجه مُثقل بالحيرة و القلق.. كم أكره هدوئي و صمتي الذي يسبق عاصفة التساؤلات..أفي الحركة بركة أم انفصال عن الجذور و شذى الذكريات؟ كيف نقايض الورد و الماء بالقيظ و اليباس؟ ما الأهم في ترتيب الحاجات الأساسية للبشر؟ الاحساس بالهوية؟ تحقيق الذات؟ المركز الاجتماعي؟ الجنس؟ الأمان الاقتصادي و العاطفي؟ البقاء؟ أتكون الحاجة لأن يكون للإنسان وجود مستمر الكلمة الفصل و الأخيرة في كل عملية انتقال أو هجرة أو هروب؟ لربما هو كذلك: نداء الحياة!

دخلتُ الفصل و استأنفنا الدرس.. زياد كعادته حاضر بإجاباته المُركّزة السّليمة و صوته الخفيض الذي تمازجه بُحّة حزن تماما كأبيه.. تمرّ الدقائق بطيئة.. أفكر في الأسابيع القادمة و ثقل الصمت الذي سيملأ فصلي و الأسئلة التي ستبقى مُعلّقة لدقائق قبل أن يحاول أحدهم الاجابة بجملة رديئة.. طوبى لصحراء زاكورة بندى تزاخت!

*قرية تزاخت تقع بين بلدة بومالن دادس و مدينة قلعة مكونة المغربية المعروفة و طنيا و عالميا بمنتوجات الورد البلدي.
** تقع مدينة زاكورة في الجزء الجنوبي الشرقي من المغرب، و يعدّ مناخها يابسا و شبه صحراوي.

 

المؤلف، حسن شوتام:

قاص و مسرحي مغربي.
صدر له: السبت الحزين ( المغرب 2001 قصص و خواطر) نافذة الاغاثة ( مصر 2014 مجموعة قصصية) خارج المبنى ( مصر 2015 مسرح)