جلس نجيب أمام المحل يهش الذباب و القلق و الأفكار الملغمة التي لا تتوانى عن الانفجار واحدةً تلو الأخرى، كانت كلما يفرقع إحداها تتدحرج غيرها نحوه بقوة فيضربها و يتشبث بتنهيدة لعلها تكون خلاصه و لكن لا مناص …لا مناص قالها حين انتبه أن الخِناق بدأ يعزف مقطوعته الموسيقية على ضفاف طريق تسرب إليها الرعب.
قلوب مضطربة.. وجوه مكفهرة وعيون تائهة .. ترجل الشاب متجها نحو المحل حيا نجيب و سأله: ما الأخبار؟
-الحمد لله
-من اللي هنا دول و لا دول
-لا دول و لا دول
ضحك صاحبه الجالس في السيارة و قال بصوت عالٍ: نجيب مَالكُ المنطقة بلا منازع .. ابتسم نجيب و قال: هو أنا ناقص .. خرج الشاب حاملا علبة سجائر و قنينتي ماء و قال: ربي يستر يا نجيب.
ساد المكان الهدوء خلافا للأيام السابقة فازدادت حركة السيارات قليلا .. قالت الأم لابنتها: المهم موبايلك مش معاك .. أكدت الفتاة ذلك و عادت إلى ترديدها للأدعية .. قال أخوها بينما كان يتصل بنجيب: أريحينا و لا تكتبِ على الفيس بوك و الفايبر.. الوضع سيء وغير مفهوم .. أرادت الأم التأكيد على ما قاله ابنها إلا أنها صمتت حين أجاب نجيب على اتصال ابنها.
في الطريق المؤدية إلى مصنع الاسمنت بمنطقة الهواري غالبية المحلات مقفلة .. بعض محلات المواد الغذائية تدب فيها الحياة بحذر .. تلمح حركة مضطربة لقاصديها .. القليل من السيارات أمام مستشفى الهواري العام .. معصرة زيتون توارب أبوابها .. لا ترى إلا قلة من العمال المصريين لمحلات ذبح الدجاج التي كان يضج بها الطريق .. وحدهم العمال السمر يجلسون على جزيرة دوران المصنع بينما كل محلات الجزيرة مقفلة عدا محل واحد ..المزارع شبه خالية و تلمح آثار سقوط الصواريخ على بعض البيوت .. سألت الأم: ماذا قال لك؟ .. قال الابن: هدوء و توجد حركة سيارات ثم أوقف سيارته حين رأي جيرانه .. نزل الشابان من السيارة .. تصافحوا و قالوا له: الوضع هادئ و لكن لا تتأخر
-كن حذرا و أقفِل باكرا
قالها الشاب لنجيب بعد أن تحدث معه عند مغادرته للمكان تاركا بيته خلفه .. استودعه الله و استودع قطيع الأغنام الذي وضع له الأكل و الشراب على عجل .. قالت الفتاة: نسيت جهاز قياس السكر ثم صرخت استيقاف على الجزيرة و بدأت تردد الأدعية.
ملثمون يقفون عند جزيرة الدوران يفتشون السيارات .. يسمحون للعائلات بالمرور .. اقترب بعضهم ناحية محل نجيب .. دخلوا عليه و سألوه شاكين في أمره: أنت مع من؟ فقال نجيب: من ليس مسجلا في دفتر الديون لا أعرفه.
أقفل نجيب و محمد الدكان على عجل ذاهبين إلى بيتهما .. الطريق خالية و صوت شجارهما اختلط بصوت صواريخ تسقط بعيدا .. كان محمد مُصِرا على ترك المحل بينما نجيب يرفض غلق مصدر رزقه .. صرخ محمد باحثا عن أي مبرر: دول بيذبحوا في المسيحيين .. لطم نجيب على وجهه مناديا يا رب و نظر إلى محمد و هو يهش أفكاره الملغمة قائلا بكلمات منكسرة لا تفقأ عين الخوف: يخرب بيتك هو أنت مسيحي.
الهواري: منطقة غرب مدينة بنغازي و على أطرافها و هي من المناطق التي يشتد بها الصراع المسلح
بقلم المؤلف رحاب عثمان شنيب