اليومان الأول والأخير هما دائمًا الأصعب علي الاطلاق .. توجس اللقاء، وحسرة الفراق .. التوقعات القابلة للخذلان، وترقب ألم الاشتياق ..
الليلة الأخيرة كانت مُرهِقة .. أنخفض فيها ضغط دمي، في تناسب عكسي مع ضغط مشاعري وأفكاري. أستيقظُ في معاد متأخر عما أعتدتهُ طوال العشرة أيام السابقة .. أتجمل أمام المرآة أكثر من أي يوم، أقاوم مشاعري وشحوبي بالألوان ..
أقضي اليوم بتركيز ضعيف وذهن مشتت. أفكر في كل شيء ..رحلة العودة وحقائبي الكثيرة الثقيلة التي زادت أكثر من الضعف في الحجم والوزن بسبب الهدايا والمشتريات من سوق أسوان. الأحباء الجُدد رفقاء الورشة الذين سيغادرون، وأغادر، كلٍ إلي محافظته .. وإلي بيته وعمله وأسرته بعد أن ينتهي بنا الحلم الجميل. “ت” الطفلة التي أسرتني بالكلية، حتي لأشعر لأول مرة بسطوة وقسوة البساطة والبراءة، التي تنتزع قلوبنا من احشاءنا، وتنزل بكبرياءنا ومبادئنا إلي التراب لنعترف تحت وطأة اللعب معها بزيف كل شيء أخر.
وأفكر فيها! جزيرة سهيل .. تلك البقعة التي لم تنمحي منها بعد بصمات الله، فقط زاد علي نقش سطحها بصمات بعض البشر الطيبيين. جماعة النوبيين الذين يتحدثون لغة لاافهمها ويفيضون شهامة وكرم واحتواء يكفي لكفالة يُتم الأرض كلها.
أطيل النظر بعد الافطار من مندرة “بيت سهيل” للنيل والشط الأخر .. تجاورني صديقة ويدور بيننا حديثًا لاأتذكره .. تنهيه بــ”لما تيجي هنا تاني هايكون المكان بقي غير المكان .. هايكون الطريق اللي بيعملوه دا اترصف، والمينا كِمل .. هاتكون الجزيرة بقت حاجة تاني خالص” .. فأشعر بانقباضة في روحي ومعدتي ..
هل من الأنانية تمني أن يظل المكان علي بكارته وفطرته؟ هل احتمل أنا أن اسكن في شوارع ترابية لاتسير فيها سيارات .. لأنه من الأصل لامجال لعبور سيارات إلي جزيرة، ووسيلة العبور الوحيدة إليها المراكب المجدافية البسيطة، أو المراكب ذات المحركات للعدد الأكبر؟
هل ستصبح الجزيرة وأهلها أسعد إذا صبغت المدنيّة تلك البقعة السابحة علي سطح مياه النيل الصافية؟ .. أتذكر مرورنا يوميًا من محل سكننا، إلي فيلا صغيرة تخص أحمد –مالك بيت سهيل- والتي تبعد حوالي ثلاثين متر، لنستخدم قاعة للمحاضرات تصلح لتشغيل جهاز العرض الضوئي السنيمائي، وكيف كان المرور في الطريق الترابيّ صعبًا ومرهقًا للأنفاس والعضلات في أخر يناير! عزّ الشتاء. يستخدم أهل الجزيرة “التروسيكل” لعبور ذلك الطريق من المرسي إلي ممرات منازلهم .. الطريق الأسفلتي الجديد سيغطي هذا الممر.
هل سيصبح أهل الجزيرة أسعد بعد الطرق الأسفلتية والميناء الرسمي والمعدّية؟ هل أحب المدنيّة لنفسي، واستنكرها علي بشر أخرين لمجرد أن أضمن لنفسي مكان استجمام هادئ، ومناسب كخلفية لصور طبيعية جميلة؟ مازلت ممزقة مابين أنانيتي المحتملة، وخوفي من انحسار الجمال الرباني عن بقعة أنتمي لها بحكم الحدود السياسية.
اتخذ قرارًا لايأخذه حبيب .. بل عاشق. لو تغير شكل الجزيرة إلي “مدينة”، سوف لا أزروها مرة أخري. لتظل القرية السابحة الجميلة ذات الجبال في صوري التي سألجأ إليها كثيرًا تحت اشتداد وطأة الحنين، وترابها في أنفاسي الثقيلة، وأحجارها التي جمعتها من أرض ربما تخلو يوم ما من الحصي الصغير في “برطمان السعادة” الخاص بي، مع خبرة الحب السماوي الذي أخبرته فيها محفوظًا حيًا في قلبي .. ولينعم أهلها بالمدنيّة .. هنيئًا لهم الحضارة، وتشويه بصمات أصابع يد الله، وطابعهم الذي ببصمتهم.
أنزع عيني نزعًا عن مشهد –ربما- أراه للمرة الأخيرة وأدلف للحجرة لحزم حقائبي.
بقلم المؤلفة كارولين نبيل