الوسادة

20150420_121630

ماذا يَعْني ذلك في ليلةٍ صمّاء؟ جَوْلَة قَصيرة على أرض مقتولة تحت سَماء غاضِبة أوْحَت إليه بِرغبة قُسوة لإعادة الأدراج إلى الخَلْف والارتِكان. ثم رُكوب طَريق الانتِظار، الطَّريق المُضاءة ليْل نَهار وصيْف شِتاء، حَيْثُ إمْكانِية التَّأمُّل والإحْساس والمُمارَسة مُتاحة في كل الأوْقات.

أخْبِرْني: أثْناء التَّصْعيد من يَهْتَم لِمن؟ كان الغَسَق قد عمّ كل الأصْقاع لما عادَ إلى مَلجَأه. دَفَع الباب الصَّدِئ إلى الجانِب مُحدثا نَغْمة زَئيرية مُناسِبة للأجْواء البَهيمِية المُعايشة. وَلَجَ داخل الغُرْفة بِخَطَوات مُبَعْثَرة كأن أحَدُهم يجبرُه على القيام بِفِعل مَكْروه. بينما كان يَتَلَمَّس الطّريق صَوْب رُكْنه الأثير مُحاوِلاً إزالة خُيوط العَنْكَبوت المُتَسَلّطة على وَجْهِه، ناداه صَوْتٌ غَريب وسَريع: “أطْفِئوا النّور…” لاذَ إلى الإجابة بِالوُجوم، والتّوَقُّف عن إصدار أي خَشْخَشة مُحاولاً التَّأكّد من مَنْبَع الصَّوْت الذي اخْتَرَقَ أُدُنَيْه بِرُعونة. تَذَكّر أنه لا يوجَد غَيْره في الغُرفة المَهْجورة، لكِن احْتِمال وُجود أحَد المُتَشَرّدين اللَّيْلِيّين من أبْناء الشارع مُؤَكّداً جداً، المُحيط يَعُجُّ بِهم والغُرْفة -كما يتوهَّم هو، أو المرآب المُهمل كما ترى معظم الساكنة- لا تَتَوَفَّر عَلى طِلاء لِحائِطها، لا إنارة ولا قُفْل ولا حتى مالِك مُعَيّن؛ انها مكان ملغوم. أخرجَ الوَلّاعة من جيب سرواله الجينز، وصار يُقَدّحُها في كل رُكن يعبُر به، حاملاً سِكّيناً في اليَد الأخرى، خاطِفاً نَظْرة لِبِضعة ثَواني على الجِدار والأرْضِية مُسْتَعِدّاً لِأيّة هُجوم. “حمداً لله لَيْس هُناك أحدٌ، الغُرْفة لَزالت شاغِرة كالمُعْتاد،” حَطَّت ابْتِسامة خَفيفة على وَجْهِه وهو الذي فَرَّ من الآخر مُنْذ مُدَّة وَجيزة. ربّما ذاك الصَّوْت نَبَعَ من الخَوْف الوَحْشي الذي أضحى يَسْكُنه مُنذ قُدومه إلى هذا المَكان، قُدوم له يَدٌ فيه لَكن ليس إلى دَرْجة النَّدم والشُّعور بالخِزْي والعار. ارْتَمى على مُؤَخّرَته في نَفْس الزاوية، حيث يَفْتَرِش حَصيراً ووَرَق مقوَّ لإحدى شَرِكات الثَّلّاجات مع بْعض الأغْطية المُتَخَلّى عَنها.

الألَم الخَفيف الذي يَصْدُر من مُنْتَهى رَأسه سَبَّبَتْهُ قُوّة الارْتِطام بالأرْضِية، “هُنا كانَت وِسادة! أين هي الآن، كان عليْها أن تَلْتَقِط سُقوط هذه الكتلة؟” وَلْوَل متغطرساً كمن يُخاطِب عبْده. مدّد يَدَيْه إلى الجَوانب ثم الأسْفل، لا توجَد. يُعيد السّؤال بِصوت عال جدّا: “أين ذَهَبْتِ؟!” تَقَرْفَص، وأَسْنَد ظَهْره إلى الحائط، تَبَّت رُبْع شَمْعة مِما تبقى من الليْلة السالِفة في الشَّمْعَدان، ووَلَّعَها في المُحاوَلة العاشِرة، الضَّوْء أزال طُموح إيجاد الوِسادة في رُكْنٍ ما من الغُرْفة. شَعر بِقلبه يَتَقَلَّص راثِياً اخْتِفاء الوِسادة، التي ظلَّ يُعانِقها كل لَيْلَة ساكِباً أحْزانه النَّهارِية عليها ومُمْتَصاً ما امتَلَكَت من دِفْء أبَدي.”يا إلَهي، لَقَد كانَت غِوايَتي المَحْمُومة.” نَطَقَ تَعيساً.

لَقد اخْتُلِسَتْ هي الأخْرى. لَحْظَتَها صَعُبَ عَليه الرُّضوخ لِلأمر الواقِع لِمُدّة طَويلة بِحَجْم حِلْكَة لَيالي المَطَر والصَّرير، الحِلْكة التي تُعَمّر حَياته وتجعلها بئيسة. كل ما يَتَمَنّاه: أن تظل الشمس في الغرب، وأن لا تُسْدل أشِعّتَها على أرْض مغربها عاجِلاً، لِكي لا يرَ وِسادته مُهَشّمة تحت رأس أحد المَخْبولين، وهو الذي أرادَها له وَحْده إلى الأبد بكل أنانِية وحُب وجُنون.

“فِعْلاً شَخْصٌ غَريب اخْتَرَق المَكان، واسْتَوْلى على كل شَيء،” فكر كمن يستعد للإجهاش بالبُكاء والنحيب. أرادَ إيقاف التّحْديق في الحائِط المسفوع أمامه، لِذلك وَضَع اليَوْمِية على فَخده الأيْمَن، لَفَّ القَلَم بأصابِعه البارِدة، يُخَطِّط عن ذِكرى الاخْتِطاف، مُبْتَدِئاً الكَلام: “هَذه لَيْسَت رِسالة، شِكاية، دِعاية أو حَتّى اسْتِنْكار. إنَّها تَخْليد لِخَيْبَة أمَل أخْرى، ليْس من باب الرّثاء وإنَّما مُتْعَة الوَحدة والاشْتِياق…”

 

10475223_10203232379102793_8119008690429263780_n
بقلم المؤلف محمد قنور

اختر مغامرتك

الاستيقاظ

أ) يثير الغضب.

ب) جعله شاردا.